أقفاص 20

الواجهة التي أجّل كل مرة أن يجعلها دربا عمليا و يوميا للنضال كانت هي الواجهة الحقوقية. كان التحفظ في درجة الفعل السياسي التي يحققها هذا من ذاك، السياسي من الحقوقي. لكن، ما كان أكثر تأجيلا هو الشعور بكون ضحية تحتاج إلى إنصاف، و لا تريد الإنصاف من جهاز يسهر عليه من كان سبب اعتقاله. لم يؤمن عمران بن يوسف بحل وسط في السياسة كما في الحب. اختار الاعتقال و لم يرغب في توقيع بيان تنازلات سياسية. لم يوجّه رسالة طبي عفو. هو يعلم كل هذا. يكفيه أن يكون صادقا مع قلبه و مع ضميره. ولذلك كانت تأملاته جلسات توازن و حوار داخلي.

انتظر من الحقل الحقوقي أن تكون المؤسسة أكثر تحررا و استقلالية. رافع ملفاتها الحقيقية و طالب مع من طالبوا بتسوية الجلاد و السجين في المعالجة. لم يلبوا طلبه و لا سمعوا لرأيه. يعلمون الحرج، و الحرج موقف سياسي. يعلمون الصمت و الهروب إلى الأمام، و ذاك الهروب رجعية منفلتة إلى الفشل و عدم التقدم مع التاريخ و قانون تطوره.

مر على تأسيس المجلس الاستشاري ثمان سنوات. ينظر إلى الساعة اليدوية التي أهدتها إياه وفاء في آخر لقاء بينهما. ماركة رفيعة يتابع بها نبض الزمن و المشاعر كما السياسة. الساعة العاشرة و واحد و أربعون دقيقة. عقرب الثواني لا يكل في ملاحقة قلب أحمر صغير لاصق برأس سهمه الأزرق. حرف محفور على القابضة اليدوية بالدابليو. يبتسم للتحدي الهادئ الذي يخوض غماره قلب أنثى لا تريد التنازل و لا التخلي عن قبضة جوهر بنت به سفينتها. وفاء، رغم استقرارها الأسري و كبر ولديها ترفض التخلي عن وفاء الطالبة و المناضلة، وفاء عمران. لا تطلب المستحيل، كما لا تغامر بأكثر من اللقاء و الحوار. ربما العيون تنوب عن تبليغ المراد فتحققه دونما حاجة إلى تورط. هي تعلم بالحضور الأنثوي في حياة عمران و لا تعترض عليه. تسأل عنهن و تقاضي تصرفاتهن مع عمران. يضحك ملء شدقيه لانفعالاتها و صرخاتها الهادئة في كل لقاء بينهما بمطعم أو مقهى. كان نصيب صباح أكبر حين مشاهداتها المتكررة للمسرحية أو حين متابعة الحوارات الصحفية معهما أو حين قابلتها في جلسة عمران في إحدى زياراتها للعاصمة الرباط.

أصبحت علاقتهما متميزة منذ نجاح العروض الأولى. و لعل نادية استشعرت المنفلت من قبضتها فأرادت الحفاظ على كرامتها الأنثوية. خلال سنتين، تطوّر العرض إلى ترجمات وعروض في الديار الأوربية أولا ثم بعض دول أمريكا اللاتينية. بكى الجمهور هناك في الأرجنتين و الشيلي. عانقوا عمران و صباح. جعلوا لهما نصبا من رمل في مواجهة رياح جنوب المحيط الأطلسي. جلس الجمهور ينتظر الهبوب القوي و الاندثار لحبات الرمل مع صوت الهدير و قراءة قصائد سياسية لمعاناة الأرجنتينيين مع أعتى الديكتاتوريات هناك، والتي قادها خورخه رافائيل فيديلا فشرد و قتل ما يقارب ثلاثين ألف من المعارضين خلالها. الموسيقى الكلاسيكية تعاند هدير الأمواج، و صفحات الوجوه مواجهة للفحة الريح و حصى الرمال. تغيرت الملامح و القسمات. مارست قطرات المطر النصب فبللته وشاركت في التساقط الناعم و التمازج مع الأرض بدل أن ينعدم في لا اتجاه.

تسمع وفاء تقريرهما و مناقشتهما للرحلة و لمناخها الفني و الثقافي فتبتسم و تذرف الدموع لكونها غائبة عن لحظات فرح و مجد يتمناها كل مناضل، و أكثر ما يمتناها حينما يتحول إلى مثقف مبدع و فنان مؤدٍّ يساهم بعطائه في تغيير العالم و أحداثه. سمّاه عمران مع اطلاعه على التطور المعلوماتي و ثقافته و معجمه بالنضال الناعم. و حيث أصبح بمقدور الإنسان أن يصبح كونيا أكثر مع هذا التطور، أصبح بمقدور المناضل أن يكونه كذلك: المناضل الكوني العولمي. تصور خلق هيئات و جمعيات و جبهات للعمل السياسي الملتزم عابر للحدود و مشترك في قضايا إنسانية أكبر.

ها هو عمران و قد تقلّد مهمات داخل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان و شارك في مناظرات و ندوات، ينتقل إلى العضوية الدولية و تمثيليتها في مجال البيئة و في مجال مكافحة الإرهاب و الاضطهاد السياسيين. قضايا متعددة كحماية الأقليات و لمساندة الشعوب التواقة للتحرر من قبضات الاحتلال المباشر على الخصوص. ساعدته اللغة الإسبانية التي يتقنها منذ طفولته تداولا، و منذ تعلّمه خطابا و كتابة، على أن يحضر ممثلا للجمعية الحقوقية في ورشاتها و أنشطتها بشبه الجزيرة الإيبيرية و بابرازيل. و حيث كان شمال المغرب يعيش تحت الاحتلال الإسباني و ثقفاته و اقتصاده، و ما يزال الامتداد الثقافي المرتبط بكل ذلك، كان المشترك في التداول الحقوقي المتقاطع مع القضايا الإنسانية حاضرا. رفع تقريرا مرفقا بمستندات و صور و مقاطع فيديو استطاع الحصول عليها، إلى الهيئات الدولية المكلفة بحماية البشرية من الأسلحة الكيماوية. أثار حرب الريف و شرعية المقاومة في كل ذلك و ما رافقها من تحالف ديكتاتوريات للقضاء عليها... نال عضوية شرفية و أخرى عملية داخل جمعيات أوربية محلية و دولية. و تطوّر التفكير في الاستقرار الجديد خارج الوطن و داخل دائرة خطاب جديد يرتبط بما هو حقوقي الذي يتضمن القضايا السياسية وغيرها.

كانت هذه إحدى بواعث عمران التي ناقشها مع حكيم و غيره من رفاق درب أمس. لم تكن ارتباطاته الداخلية مطمئنة أكثر. لم يشعر بتحرر أكبر. خروجه من الاعتقال ربما كبّل قدرته على اتخاذ مواقف أكثر جذرية و صراحة و جرأة... و كأنه اشترى حريته الجديدة بعد السجن المركزي... و كأنها مساومات تمت و قد يسميها هو أو غيره ثمن الحرية و شرطها الجزائي... و ربما يسميها غير ذلك. يتتبع جمهور القراء و المناضلين و المهتمين سيرة النورس السياسي و الحقوقي. يقرأ عمران معه العنوان الجديد على صفحة الجرائد الوطنية والإسبانية: رسو النورس الأديب فوق أبراج سواحل كاتالونيا... و يتابع القراءة و التحليل.

يأخذ زفيرا هادئا يُخلّصه من ترسبات أفكار مشوشة له و لرفاقه و أصدقائه الذين يتتبعون أو يشاركون مسيرته الثقافية و الحقوقية و السياسية. يدشن المرحلة الجديدة بعرض مسرحية ( سيرة نورس ). تتألق صباح من جديد كفنانة ملتزمة بقضايا نبيلة و إنسانية. يختتمان العرض بمشهد جديد ينضاف إلى القديم من المشاهد، حيث يرافع النورس الماء و السحاب، و حيث يخاطب إله البحر (بنتور) إلهة الجمال و الحب (أفروديت)، حول مسار النورس الجديد و جزيرة أحلامه الجديدة، يبكي و يرافع لقضيته أمامهما و أمام باقي آلهة التيمات الوجودية الكبرى في فلسفة حياة الإنسان:

ـ تلك أجنحتي وهبتها لإله الريح لكي يخلّصني من القضبان التي تنخر كياني كسهام موجعة. كنت القربان الذي تعرّض للطعنات نيابة عن الضحية. و ما شبع الجلاد. و ما خلدت روحي و لا انتهى سفري. ربما يضحك عليّ سيزيف في كون تجربتي في التحليق هي موعد مع المجهول المتجدد و المتشرنق. ربما أتحداه في كوني لا أكرر الفعل هباء دون جدوى. و لعل الجدوى هذا الصوت الذي تسمعونه كل حين. أنا نورس خلوده الكلام.