Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Le blog de mondevenir/imami hassanإمامي حسن
Le blog de mondevenir/imami hassanإمامي حسن
Menu
أقفاص 18

أقفاص 18

أقفاص 18
أقفاص 18

المرافعات التي يعرفها النقاش بين الرفيقين تصل إلى مستويات في التحليل الحاد و الفارق بين النار و الماء، و بين المطرقة و السندان في بعض الأحيان. مغتربان في واقعية مُرّة أخرجتهما من سجن مادي لكي توقعهما في سجن من نوع آخر يعاني فيه الجانب النفسي أكثر، ذلك أن الوعي و المنطق و العقل ما استطاعت كعناصر أن تقاوم مَدّ التغييرات والتنازلات المتتالية و أشكال الارتماء الغريبة في فم التمساح أو أنياب السباع...

يستفز عمران صديقه حكيم في مباركة وضعه الجديد ممازحا:

ـ تبارك الله على الرأسمالي الجديد. ها أنت أصبحت تستثمر و تربح و تطور رأسمالا و أرباحا و تخلق طبقية جديدة.

ـ لا أدري صديقي عمران إن كنتَ قد استضفتني لقول هذا الكلام المبارك أم لشيء آخر. إنما لكي أجعلك في مقام الواقع، ألا ترى بأنك تعيش على فضل الرأسمالية و اللبرالية؟ ألست تنعم بفائض القيمة و الرأسمال؟

ـ اشرح لي أكثر يا حكيم التجارة.

جلستهما ابتدآها في الحقيقة بحانة المنتهى مباشرة بعد وصول حكيم عبر القطار إلى محطة الرباط المدينة. و كأنهما في عطش أمومي و أخوي لحليب يرضعان منه مشتركين. بمجرد السلام و الاحتضان المتبادل بادر حكيم إلى التعليق داخل معطفه البني الدافىء و قبعته الوبرية التي أصبحت لا تفارق رأسه الذي فقد كثافة شعره:

ـ و الله لن يخلّصك من هذا الترحال الذي كلّفتني إياه إلا كأس معتقة أو صبابة صهباء.

ـ هي ما كنت سأقترح عليك بدءا. حدسنا يشترك في نفس التنبؤ أظن. أراك بلباس موسكوفيتشي كامل.

ـ هه.. أنت يا عمران تعيش في العاصمة التي جمعت دفء الطقس و دفء السياسة و الحياة. أما أنا فإنني آت إليك من منطقة قارية. كل شيء فيها قاس، المناخ و البشر. ها أنت بلباسك الربيعي في فصل الشتاء. قميص مفتوح الأزرار و شياكة و أناقة حذاء. يا سلام. ظهرت عليك نعمة العاصمة.

ـ أنا الآن النورس الضائع بدون شواطىء يرسو فيها و لا مراكب يمتطي رحلتها.

ـ أراك شاعرا محلقا من جديد. ليت نورسك أسعفني في الإلهام و المصاحبة. أم إنك كنت ساحرا تمارس طقوس شعودتك و لا نعلم؟

ـ أين تقترح الجلوس؟ بجانب المقصف أم حول طاولة؟

ـ و الله العظيم يا عمران، اشتقت لبنات المدينة في الحديث و المناقشة و شم العطر. أعلم عدم مناسبة السياق و وظيفة الجلسة هنا و تأويلها الخاطئ. و لكن، هذا اشتياقي. لو تعلم أن مجالسة إحدى الفتيات هنا مفيد لإعادة الاعتبار لكل رجل و لكل من يرغب في معرفة حياة النساء و طبائعهن وهلم تأنيثا.

ـ قد أوافقك الرأي، لكننا الآن لنناقش و نستريح من وعتاء السفر.

ـ أنا من سافر و ليس أنت. كنت أمازحك في الاقتراح فقط.

ـ أعلم ذلك.

ـ أراك في وضعية جديدة. سكن جديد و أنشطة ثقافية جديدة.

ـ سيطول الحديث و سيكون أفضل في الشقة. استمتع الآن بابتساماتهن يا لعين. رأسمال مجاني في الاقتناء.

وصلت سيارة الأجرة الصغيرة الورقاء الفاتحة اللون إلى مقر سكناه أما بوابة العمارة. أعجبه حكيم منظر البحر المترامي بأمواجه في منحدر الطريق الذي يعبر الرؤية من زاوية الزنقة التي يقفان فيها. رفع عينيه لتعداد عدد الطوابق الستة منبهرا بعلوها و شرفاتها. انطباع يختزنه كل زائر للمدينة من بادية أو من مدن صغيرة.

ـ أراكم مبرعين بناطحات السحاب.

ـ إنها ناطحات الكلاب. أيها الساخر اللعين. حتى دروس المقررات تتناساها.

ـ كيف ذلك؟

ـ درّسونا بأن ناطحات السحاب تصل إلى تسعين، مائة طابق.. ألا تتذكر؟

ـ و ما تنفع الذكرى؟ أنا أبارك لصديقي ناطحته الجديدة.

ـ ههه... أرجو ألا تكون مما أكل السبع و عاف. أيها الماكر الخطير.

و يستمر حكيم في أسلوبه الذي اشتاق له عمران كثيرا في المزاح و المرح الذي اشتركا فيه إلى جانب الجحيم الذي تقاسماه. يعجبه كثير لجوء حكيم العمراني إلى عدم الحديث عن المرحلة بشكل درامي مؤلم. رغبته في عيش المرحلة و الاستفادة من إيجابياتها التي تتماشى مع قناعاته الشخصية. هي الذات و توازناتها كما يقول له حكيم بعض المرات.

قام حكيم ببَرْجزة أثاث الشقة، بدءا بالفوتوي و الأريكة، مرورا على الطاولة الخشبية المنقوشة التي تزين وسط البهو ثم الغرفتين و المطبخ و الحمام الرومي الذي يختم جولة استطلاعه على فضاء حياة صاحبه الجديدة.

ـ صديقك ضيف على الحياة في بلده. الشقة كانت لمحامٍ استغنى عن خدماتها بعد ترقيه اجتماعيا و ماديا. بقيت فارغة، و بحكم علاقات حزبية و ثقافية تجمعنا بالرباط اقترح عليّ أن أستغلّها و أؤدّي سومة كرائها الشهرية. هذا كل ما في الأمر.

ـ أنعم الله عليكم بالعلاقات و الاستفادات. أرى أن تجارتي لا تحقق لي كل هذه الامتيازات.

ـ أنت حر و تعيش حريتك داخلها. و هذا فضل كبير. أم تُراني أناقض ما تبنّيتَه؟

ـ بالعكس. ما وجدها أحدنا كيف رغب فيها. أنت تعلم بأن مرحلتنا الجديدة صعبة على شخصياتنا. و قليل من يدرك ذلك. الكل يلومنا على عدم الاستمرار في التضحية و المواقف الحاجّة ضد النظام و ضد سياسته. و كأننا خلِقنا لكي نكون أصحاب خطاب و أصحاب ثمنه بحرياتنا و أرواحنا التي فقدناها في المعتقلات. لقد تعددت موتنا بل إننا متنا عدة مرات و ما زلنا نعيش. انتم الشعراء تعبرون عن ذلك بطائر الفينيق أظن؟

ـ أيها اللعين. ماكر حتى في الأسى. فعلا إننا طائر الفينيق المنبعث من رماد النار كما تعلم. ههه.. ها أنت تعلم و أنا أعلم. يكفينا هذا كاتفاق.

ـ و أين ذهب النورس؟

ـ و كأنك توّلد قصيدة جديدة أو مشاهد مسرحية جديدة. هو الفينيق و هو النورس.

ـ أرجوك. ستجعل ثمالتي التي بدأت تنتعش بنشوة الكأس تطير. خفّف عليّ في التحليل و الخطاب. لو كانت الأنثى حاضرة لعشنا اللحظة بعيدين عن السياسة و شقاوتها. هي سياسة جميلة في حدّ ذاتها.

ـ ماذا أقول لك؟ تعلم موقفنا أو مواقفنا من قضية المرأة. رغم أنن نمزح الآن، فإن تحقيقنا لتلك المبادئ يحتاج منا إلى تضحيات و إلى احتياطات حتى لا نسقط في تكريس رجعيات في المواقف و العلاقات. أنا الآن في مرحلة جديدة. و لا يمكنني الحسم بأن المراحل السابقة قد انتهت أو انقطعت. ما تزال وفاء حاضرة. كذا نادية و صباح و غيرهن. زهرات حقلي الصغير، لا يمكنني الاستغناء عنهن أو اقتلاعهن من مروجه العاطفية.

ـ يا سلام. هذا التحليل يعجبني عندك. تعلَم لو كنت قبِلت العملية الانتخابية و ترشحت لها بدل مقاطعتها و خلق خصومات بسببها داخل الحزب و غيره، لكنتُ صوّتت عليك إن نزلت بمشروح انتخاب يتضمن هذه الفلسفة. لكن عليك ان تجعله يتحقق عند كل من صوّت عليك. مفهوم؟

ـ إييييه. و إذا لم يصوّت عليك قلبك ما العمل؟

ـ سؤال صعب يا عمران بن يوسف، و أنا مجرد ضيف عندك في الرباط.

تشتعل عيناه ابتسامة و انشراحا و تفهّما و تقديرا لجواب صديقه عمران. ملامح تبدي استعداده لمناقشة تلك الدواخل العاطفية و المواقف السياسية الجديدة و التناقضات الموضوعية التي تعلق فيها ذات عمران كما حكيم كما غيرهما. و دخلا إلى النقاش الصعب الذي يخط الطريق السيار و المعبّد للتاريخ. بدآ في تقويم المرحلة و التجربة السياسية الجديدة للكتلة و لليسار. بدآ في محاكمة مواقفهما و مدى موافقتها لمبادئهما التي انطلقا بها و منها منذ أيام الجامعة. لماذا ضحينا بحياتنا في كهوف جحيم منسية؟ كان هذا سؤال المنطلق الذي سيعطي الشرعية لجذرية كل تحليل يسلكانه أو يصلان إلى استنتاجات داخله.