فرطاس الجبل ـ 8 ـ

10 ـ

احتاج السيد فحص الخالدي لزيارة المكتبة الوطنية. غرضه نبش في صفحات ولّى زمن الاشتغال عليها. بحوث سابقة كان قد وجّه إليها طلبته فيما مضى من سنوات. ها هو الآن يخطو من خارج سيارته عابرا موقف السيارات. يرفع رأسه للسماء فتلهبه أشعة الشمس في شهر دجنبر الذي تعطّش لقطرات مطر شتوية. لقد نسيَ نظاراته الشمسية داخل السيارة. أغمض جفنيه في قياس حدسي لما تبقى من تلك الخطوات المولجة لداخل البهو المغطى حيث مركز الاستقبال. بطاقته الجامعية و الأستاذية جعلت الموظفين و حراس الأمن يرحبون به و يفتحون له الممر الجانبي عن المدخل المراقب إلكترونيا و المتحكم فيه ولوجيا.

في قسم التاريخ تناول بين يديه رسالة دكتوراه أشرف عليها صديقه في الشعبة السيد حمادي الغالي. أراد ان يطّلع عليها في إصدارها ككتاب كما أوصته بذلك اللجنة المشرفة. لم يجد السيد فحص بدًّا من المجيء إلى فضاء المكتبة الوطنية حيث يضمن العثور عليها خصوصا و أن النسخة التي كانت عنده قد انفلتت إلى مجرى زئبقي بين أيدي باحثين لم يتذكر منهم إلا القليل. خصوصا و أن الكتاب مصيره في الاقتراض عدم الرجوع في غالب الأحوال. ها هو الآن يتحسر على المفقود و يرجو تصفح الموجود.

تخلّص من معطفه القطني و اتخذ مجلسه داخل أريكة في الممر الرئيسي السفلي. موضوع الكتاب و عنوانه هو ( الريع المخزني لفائدة شرفاء أهل فاس و مكناسة الزيتون ). يتساءل دون بحث عن جواب حول منع تداوله في سوق المبيعات العمومية. رغم توصية اللجنة المشرفة على رسالة الدكتوراه حول الموضوع بطبعه في كتاب. أشباح المنع كثيرة و لا ترى.ـ

لن يطول البحث بين صفحاته. يتذكر ورود السليمانيين في قائمة المستفيدين. فعلا لقد وجد في الصفحة 146 ما يفيد ذلك. يأتيه صوت زوجته شادية هامسا و محاورا من دواخله. يجيب ذاته على الاستفسار الذي يرافق وسوسة الذهن. لعبة متناقضة بين إيجابيها و سلبيها. قد علّمه البحث العلمي حضورها، لكنه يعلم صورتها المرَضية كلما ارتبطت بلوم أو تأنيب ذات أو شعور بالذنب. و لم ينج هذا الجانب من اهتمام و اشتغال أستاذ علم النفس السيد حدو الربيعي. يتردد مع بداية فتح الكتاب: لماذا هذا البحث عن أشكال الاستفادة من هبات المخزن؟

يزيح في همهمة متغنية بدندنة خافتة كل الردود الممكنة للتسوية و الطمأنة وعدم الإحراج أو الاستفزاز:

ـ أنتم من أهل البيت النبوي، و قد أوصانا الشرع في الكتاب و السنة بالتكرم عليكم وقاية لكم من ذل السؤال و فقر الحال. أنا فقط أبحث عن نوع الاستفادة التي كانت لكم في تازة ثم فاس ثم مولاي إدريس زرهون. حيث يرتبط الاجتماع بالاقتصاد بأشكال التبرع السياسي و المخزني، تكون عناصر الموضوع حاضرة في التحليل، و أقواس الاستفهام كذلك حول سبب الانتقال من ذا مكان إلى آخر.

لا علم لشادية بكل هذا المونولوغ الذي تشارك فيه كشبح فقط. يدرك السيد فحص بأن شخصها يسكنه حبا و اشتياقا و ارتباطا. نصفه الذي يمشي معه و يشاركه خطوه و شعوره و رغباته. لأجلها جعل هذا البحث المتجدد في موضوع الشجرة التي تريد غرسها من جديد داخل حياتها بمدينة الرباط.

بين رواية شادية و متن الكتاب تقاطع في استفادة العائلة من ريع أراض فلاحية بسفوح البرانس. مشاكل جوار و حدود و استغلال أجّجت صراعات و نزاعات مع قبائل أصلية و قديمة بالمنطقة. ضاقت الحال و المصالح لعائلة الحاج محمد السليماني و جعلته يفكر في تغيير مكان الاستقرار و مراسلة السلطان حول ذلك. فكان الانتقال لمنطقة شراقة بنواحي فاس. لكن صيغة زوجته شادية تجعلها مشاكل عامة مع قبائل المنطقة و مع الخوف على أولاده من اندفاعهم في حركات مقاومة ضد المستعمر. قد يحضر هذا و ذاك و قد يتجاور و يتزامن النقيضان. لا طعن في الروايتين. كلتاهما تدعمان أسباب النزوح إلى ضواحي فاس.

آه. لقد تذكر. يستعمل الباحث في كتابه مصطلح الريع. بينما تستعمل شادية بمحكي خالتها و أسرتها مصطلح الوقف. و بين المصطلحين يتجاور السياسي و الديني. قوس آخر يزعجه عقليا في التناول. استهلكته دراساته السابقة، لكنه ما ينفك يستفزّه ذهنيا و فكريا. يتعامل معه بديبلوماسية مناسبة حتى لا يُعَثِّرَ طريق بحثه و دراسته دائما.

حينما يفتح قوس و جذاذة منطقة شراقة، يتطلع إلى إخراج درامي للأحداث. يقف السرد التاريخي لكي يبدأ الحدث الاجتماعي المتفاعل مع النفسيات و العادات والأخلاق.