Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Le blog de mondevenir/imami hassanإمامي حسن
Le blog de mondevenir/imami hassanإمامي حسن
Menu
أقفاص11

أقفاص11

أقفاص11

 

حينما تساءل عمران عن وفاء، حسِب أن حضور نادية كان نيابة خجل غارق في الشوق الذي يبرر عدم القدرة على مواجهة واقع الغياب. لكنه تعلّم درس السخرية من القدر الذي رسم له نقوش حياته. حينما أخبرته نادية بأن وفاء لا تستطيع الحضور، كونها قد تزوجت بعد تخرّجها أستاذة لتعليم اللغة العربية و آدابها، و هي الآن أم لطفلين، لطم خياله بواقعيته و صفع جبينه بعرق متفصد مما تبقى له من نية قصد صافٍ يتفاءل بكرم الحياة معه. لا شيء يفقده الأمل سوى هذا الخوف على عواطفه و أحاسيسه. يستطيع أن يواجه قضايا السياسة التي قادته لأبواب الموت فعاد أدراجه منها و قد رفضه القدر ضيفا عليها. استأنف له مسيرة الحياة و مزيدا من معاركها. كانت باقته التي يخشى عليها الذبول و الأفول، إناثه اللاتي تعترشن تاج قلبه و فؤاده.

ابتلع ريقا جارحا اختزنه له كسمّ يتبلسم بترياقه من ذاته. كان يعيش لكل هذه المدة ذكورتَه و أنثويتَه. يحاورهما. يستحضر أصواتهما في جلسات خارج الزمن و المكان الواقعيين. كم من مرة جعل اللقاء بين أمه و وفاء، و جعل هذه تُصبّر تلك و تربت على كتفها أو تحتضنها في ذرف دموع حسرة متضامنة مع الغائب. كم من مرة جعل جلسته القرفصائية هدية لذلك الهذيان و سفرا نفسيا و عاطفيا له. كشجرة بقيت معزولة في صحراء بعد أن هجّروها مِن غابتها و أجمتها التي تحتضنها.

يحتاج الآن لحضن الأم كي ينام في كنفه إلى الأبد. يحتاج لدفئها و هدهدتها لكي يسكت أنينه الباكي كطفل صغير لن ينام إلا على سمفونيته. يحتاج أكثر إلى عقله لكي يخلق له معادلات جديدة تساعده على تحقيق توازن سريع ينقذه من كل هذا الميلان و و الجنوح الموشك على إسقاطه في حفرة في داخلها شباك و في خيوطها أشواك تجعله عالقا يحتضر حتى تأتيه الموت فريسة لعنكبوت ما.بين غباوة مرّة و ذكاء منفلت، سارع للنظر في عينيّ نادية حين سماعه لخبر زواج وفاء في أول لقاء له معها. أراد أن يجعل هذه في تلك. أن تكون نادية هي وفاء. ما يزال يحتفظ بملامح الغائبة في ذاكرته. و هذه هرب بها الزمن معه إلى الأمام. وفاء الطالبة في بداية العشرينيات ليست هي نادية في بداية الثلاثينيات من عمرها.

تقاطر الزوار من الأصدقاء و الأهل و الهيئات خلال هذه السنة الأولى من بداية الزيارات و إمكانيتها. أصبح الاعتراف به أخيرا كرقم داخل معتقل. له سجلّ يجعل له تاريخا و شخصية. بدأت ترسم له آفاق جديدة تجعله المناضل و البطل الأسطوري، تهب له كاريزمية غريبة لكنها تحمّله مسؤوليات أكبر لا يدري إن كان يستطيع أن يكون في مقامها.

يشعر بأنه منهك. محارب و قد أعيته معركته، لا عيب في ذلك. لكنه على ما يبدو، لا احد يشعر بحاله. بقدر ما تضعِفه الأم و الأخت بخوفهما القديم و المتجدد عليه، بقدر ما تجرفه التواصلات الجديدة و التنسيقيات من داخل المعقتل و خارجه و الرسائل التي يتلقاها بشكل غير مباشر من أشخاص معنويين، تجده يسأل ذاته: أين هي حريتي الذاتية و الخاصة في الاختيار؟ لمذا لا يمكنهم افتراض عدم وجودي في لائحة انتظار الحياة، و تركي أعيش ما تبقى لي من العمر كإنسان عادي و طبيعي؟ أشتاق لبحر أرتمي فيه، فأكون سمكته المبحرة بالغناء لسنين و سنين. يضحك و يضحك. يُسمع له دوي قهقهات متتالية. يسألونه عبر الممر و بين خطوط الطول و العرض لشباك الزنازن: ما بك يا هذا؟ يا عمران، يا أب الأنبياء ! يا حكيمنا في رزانة العقل و رجاحته ! ماذا هناك؟

ـ لا تخف يا نورالدين، إنني بسلام. كنت أغني للبحر. طلبت منه أن يجعلني سمكة تسبح فيه لسنين.

ـ تخلّيت عن امرأة العزيز و تطلب أن تكون ضحية الحوت. ما لك بين الأنبياء تختار البحر؟ هل ستكون يونس الذي يبتلعه الحوت؟

ـ أنا سمكة ستسبح و تعوم و تغطس بدون جدران و لا قيود و لا حيطان و لا أبواب موصدة.

ـ أنت الشاعر في كل هذا.

يصفق جميع من شارك في هذا الحوار سمعا أو نطقا، و يسدل الستار على المشهد الذي يعيد عمران إلى داخل قفصه الهامس. يسائل نفسه: شاعر؟ سمعتُ عن (جبهة الأمل)، لكنني لأم أقرأها بعد. اطلعتُ على (كان و اخواتها). تغنّيت بك يا درويش في صوت مارسيل و موسيقاه. و أنت يا شيخنا الإمام، يا أسير النور و الظلام، بحبحتَ حناجرنا ب(حاحا) و البقرة الحلوب...

ـ ما أنا بشاعر.

يصرخ بملء ما أوتي من أوتار.

ـ أنت الهالك بالغرام و شهيد امرأة العزيز يا عمران. أتركنا ننام يا هذا.

يصعقه التقرير النداء. ينهك خياله المتطاير في هذا المساء. ينزوي في قرفصاء فوق سريره الرمادي. يعانق وسادته اليتيمة و يصمت.

ينتظر أي نداء داخلي من ذاكرته أو لا وعيه. و تأتيه هذه المرة الصور و المشاهد مرايا كشريط مسترسل لبث مرئي بدون صوت. هذه المرة تحتفل بمخيّلته امرأتان مبتسمتان: نادية و وفاء. يتأملهما في عتمة الليل.