Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Le blog de mondevenir/imami hassanإمامي حسن
Le blog de mondevenir/imami hassanإمامي حسن
Menu
أقفاص 1

أقفاص 1

أقفاص 1

 

أقفاص

 

 

اعتاد على هذا الاستيقاظ. أصبح صورة سوريالية أضافها إلى صور خياله الشعرية. يوم جعل الكلام قنبلة تفجر المستحيل و تخترق رماد الصورة و تسكب الألوان على هذا البياض الذي يهدد بالسكون التام.

يفتح عينيه في جوف العتمة. لم يعد للخوف من درجات حضور او استفزاز. زوايا الزنزانة ألفها في وحدته. يحن لها كلما أراد االاستكشاف المتجدد لدواخله. سفر فريد و فرداني لا يشاركه فيه أحد من الخلق و لو همسا أو تذكرا.

الخوف ! كلمة أزاحها من قاموسه النفسي. حتى الجرذان التي تجرؤ على الظهور كل مرة من ثقب باب أو ما شابه، تحتاط لهذا المتغرب في الظلام. ها هو يفتح عينيه داخل حلكته. راقص بهما كل صوت. ينبعث بريق قمري باهت منهما يستمد نوره من طاقة عبراته التي فقدت غددها وظيفتها. ينحنح لاتخاذ المسافات مع الحشرات و الجرذان. أصبحت على يقين بأنه يسبقها حركة وفهما و حذرا. كلهم كائن موجود. و كلهم يبحث عن الاستمرار داخله.

قد يلهو و يلعب معها، و قد يوهم الحراس بالجنون و فقدان العقل و الصواب. يصدر عواءه مثل ذئب. يخترق به السكون و الظلام. يأتيه نور المصباح اليدوي للحارس عباس، هذا الذي تعوّد على لعبة أسير يعيش درجة الجنون. و ما صاحبنا بمجنون. فعلا. هكذا يطمئن دائرته بين الممرات و الزنازن: ما صاحبكم بمجنون. إنها لعبة لتحدي هذا العدم. داخل كل منا ألف حيوان و إنسان واحد، هو أنا.

يضحك الكل للمفارقة و المقارنة. يستغربون لمصدر هذه الأفكار و يغبطونه عليها.

سبع سنوات عجاف مرت عليه في هذا الحبس الانفرادي. اكتشف خلالها خارطة العروق و الشرايين، و تمدد عضلاته و نحافة جسده. يفجر سعاله قنبلة في لحظات الاشتعال و يتمزق به داخليا في نوبات الألم. النبضات تستنفر لحظات الشدة كطبول حرب، فيصبح العدو الأساسي ثانويا أمام احتفالية الألم هاته.

يوم أخبر بالرحيل من ذاك الجبل المنسي في القاموس السياسي و التاريخي استحضر في امتحان للذاكرة مراحل ما قبل و أشخاصا فقد الأمل في ملاقاتهم من جديد. ذهب في غفوة مفاجئة رغم اهتزازات عجلات الشاحنة عبر منعرجات المنحدرات الوعرة. كان للجسد إخبار و إشعار. و كانت للشمس رسالة جديدة أرسلتها عبر أشعتها اللاهبة في فضل لم يتميزه بعد لعدم وثوقيته في شيء. المادة الثابتة بقيت هناك في قبو الزنزانة و اللامادة منفلتة في هذه الرحلة الجديدة. إلى أين؟ لا يدري. لا يمتلك جوابا.

صوت المحرك مستمر في تزمجره. و رائحة البنزين اختلطت مع الهواء الساخن المختلط بنقع التراب و الغبار. تغيّر مفاجئ في حاجيات الاستنشاق و ترتيب اليقظة و النوم و التعقل و الجنون... صوت الفرامل و منبه الكلاكسون أشعره بتداخل عوالم جديدة مع عالمه القديم. تذكر ممر الزنازن المنفردة. رجاء بعض مرافقيه و جيرانه فيها للحارس عبدالله بقراءة سورة يوسف بصوته الجميل. ابتسم للصورة وهو مغمض العينين و مكبل اليدين و مرتج فوق العجلة الخلفية اليمنى للشاحنة. حاور وهما و في مونولوغ سري عبدالله الحارس. أرجع له الفضل في حفظ آيات السورة. عاش عوالمها. كان يوسف بطله داخلها و كانت زوليخة أنثاه التي تخيّله بجمالها و عطرها و فتنتها و جسده المغتسل بماء الورد.

ـ تعلم سيد عبدالله، حينما كنت تصل إلى مرحلة الالتقاء بينهما كنت أوقف عجلة الزمن. أوقف سيرورة الأحداث و الحكي. اترك ما يلي من الرواية في السورة فأِجّل وقوعه حتى قراءة أخرى تتفضل بها علينا. و كنت أرسم لقاء آخر أكون انا بطله. أنا يوسفه الذي لا يرد للأنثى طلبها، خصوصا إن كانت عاشقة و محبة و مشتهاة. ألتقيها في غفلة من الأنام و بحيطة تقمن بها و صيفاتها و كاتمات سرّها. أنوّع صور الإنجاز و المتعة و الإشباع. أتورّدها و أسبح في نعيم ملمسها النهري المنساب قبلا، فأجدني في ذروة الاشتهاء و التحقيق للرغبة الجنسية مستمنيا. تغرمني رائحة المني الذي يزعزع أركان الزنزانة و يعطرها يمحي تلك الرطوبة الساحقة للأحشاء.

لا تقلق سيد عبدالله. لقد احترمت قراءتك. و كم من مرة صمدت و صبرت و ذهبت مع الرواية إلى أقصاها في شرعيتها. بل إنني كنت يوسف يها، و لكن في تلك المرات تقاطعت معه  السجن و الاعتقال. افترقنا في سببه و نبوءته و التقينا في البراءة منه و من تهمته. كانت أنثايَ بريئة من حكيك و  قصتك، و من تورطي في حماقات متابعتك.

ها أنا الآن أحفظ سورة يوسف بفضلك. لو سألوني ماذا ستسجله كحدث متميز خلال هذه السنوات العجاف لأخبرتهم بمنجزك في جعلي أحفظ سورة جميلة من القرآن، و في جعلي أؤوّل ما شئت نظرية و تطبيقا التزاما و انحرافا بالمعنى عن المعنى.

صوت نسوي سجّل حدث الحضور في هذه الرحلة الصباحية غير المنتظرة. وحيث قلّل السائق من سرعة المحرك و العجلات رافقه صوت ماعز و غنم متفرق بين الشعاب، و ربما مع جنبات الطريق. سُمِع النداء الأمازيغي من أعلى ربما هي تلة أو طلعة جبل تنحدر منه هذه الطريق. ما زلت لا أمتلك سوى حاسة السمع و الشم كسلاح في تفاعله مع لعبة الوجود و عدمية العالم في محيطي. التقطت أذناي تامويت أمازيغي جميل. أجابها السائق بكلاكسون و استمر في رحلته. لكن الموال استمر في سقيه لخلايا جهازي العصبي و عوالم أصواتي الداخلية. حلْم جميل رافق الحدث. أنثى حقيقية اخترقت الرحلة. صوت شجي التحفت به آذاننا. منذ مدة لم يكن سوى صوت عبدالله الحارس هو الوحيد الناعم والمسافر بنا في رحلات الخيال و الاستيهام. إنجاز اليوم طبق شهي ينضاف ليبشر بزهرات ربيع واعدة بعد سبع سنوات عجاف.

و العجلات في مضيّها كأنها تعود بالزمن إلى الوراء، إلى لحظة بداية هذا العذاب. كأن عقارب الساعة تعود بالذاكرة لكي تستحضر الحياة الأولى التي افتقدتها فعلا. هل هي عودة إلى الحياة؟ هل كنت ميتا حتى أطرح هذا السؤال العمى على ذهني؟ أهز رأسي تمنعا عن كل استسلام. أطارد اليأس بمزيد أفكار و خيال.

وفاء.

تُرى، أما تزال تتذكرني و تعترف بوجودي؟

نورالدين، عباس، مصطفى، حكيم... أسماء الرفاق في الدرب. جلهم كان حاضرا معي في رحلة السنوات العجاف. أثثت بهم مخيلتي و حاورتهم في شتى مواضيع و قضايا. رافعت معهم في محاكمات وهمية افترضتها لكي أجعل حلا لهذا لسر الذي عشته مرة وحشا و مرة إنسانا. راجعت معهم محطات طلابية و عمالية و نضالية. كتبت معهم تقارير جديدة انطلقت من ذاتي أنا أولا. و حيث أصبحت الجماهير الشعبية هي خلايا جسدي المعذبة في اللامكان حيث أعيش هذا الأسر و الاعتقال. هوت العجلة الخلفية للشاحنة في حفرة زعزعت كياني، لكنها أدخلتني في ابتسام. على الأقل هناك شيء جديد هذا الذي يقع.

مرت مدة زمنية استغرقت لهيب الشمس قبل أن نصل إلى طريق منبسطة  و ممتدة إلى حيث سنصل بعد مغيب شمس و غياب ضوئها المساعد على تفحص الكون و الحياة. كانت شمس روحي هي المضيئة و هي المنتظرة لتوقف محرك الشاحنة حيث نُزِع الحجاب عن أعيننا وسط أربعة جدران عالية. من خلفنا باب كبيرة استقبلت عرض الشاحنة و أصبحت موصدة. و أمامنا باب صغيرة من حديد فتح نصفها و جاء لتلقينا منها حارس أو موظف هو في لباس كاكي و بيده ملف ورقي و قلم و لائحة أسماء. نودي على تسعتنا بأسماء. اقتيد كل من ذكر واحدا تلو الآخر داخل الفناء الجديد عبر البوابة الحديدية الصغيرة. السماء ودّعت النهار و أخذت في التحاف لون لازوردي ستؤثّثه النجوم بتدرج. ذلك كان خيالي الذي أهذي داخله كل حين. أستعين فيه بحواسي لكي تزودني بعناصر تحليل و تشكيل.

في الساحة الثانية، مصباح قوي الضياء يهيمن على زواياها و على الأعين التي تحاول تفحص جدرانه و نوافذه. كانت أربعة نوافذ هي، و برج من الجهة اليمنى ملتصق بزاوية الحائط و مغطي بسقف مفتوح الحيطان على جهاته الأربع. تُرى، ماذا وراء هذا السور؟ أين نحن؟ لم نتلق جوابا بعد. لكن صوت النوارس من بعيد يوحي بالقرب من شاطئ ما. شكرا للنوارس.

تلقينا الأوامر من حارس يبدو أنه يحلّ في مهامه بدل الحارس عبدالله. بسرعة جاءني الحنين و الاشتياق لتجويده لسورة يوسف. لكن هذه الصوت الجديد كان مستفزا و غليظا و جاهرا بالغيظ:

ـ استعدوا لأخذ حمام تتخلصون بفصله من أوساخكم  وقملكم و تطهروا أظافركم و خنزكم. بعدها تنعمون بثياب جديدة و فراش ناعم جديد. هيا !

كانت الطاعة شبه عبودية لهذه الأوامر الجديدة التي وعدنا بها تقترب في مخيال السنوات العجاف من وعد الجنة البعيد. و نحن التسعة لسنا سوى من نجوا من جحيم المرض فالموت فالنسيان.