Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Le blog de mondevenir/imami hassanإمامي حسن
Le blog de mondevenir/imami hassanإمامي حسن
Menu
بين اللغة والمقدس

بين اللغة والمقدس

بين اللغة والمقدس
بين اللغة والمقدس

 

حسن إمامي

 

*وحيث إن المقدس هو محطة الوصول النهائية لرحلة متعبة ومحيرة وغامضة، فإنه كل مرة يحتاج للراحة والاستراحة. لذلك قد يجعل كرسي الجلوس في محطة الارتياح، مقدسا يمتلك كمالات كل شيء. إنه الإله داخل اللغة. إنه الكمال داخل الحلم. إنه الاشتياق للسعادة داخل كدح الحياة.*

في حديث عن اللغة والمقدس، بحث عن جذور قديمة وعميقة في تاريخ النفس البشرية وسلوكها الواعي المرتبط بالعنصرين. وفي تساؤل عن بدايات اللغة والمقدس في التشكل والظهور نقع مباشرة في شباك الإشكاليات التي قامت تاريخيا حول الظاهرتين: اللغوية والتقديسية.

فماذا ستكون الظاهرة اللغوية؟ وكذا التقديسية؟ وما الذي يجعل الظاهرة اللغوية ترتبط بالتقديسية وتلازمها في الظهور والتطور والتحقق؟

 منطلق أسئلة يحتاج إلى منهاج تناول يحدد ما نريده من هذا المقال طبعا. لكن ما هو أكيد انه كم من قارىء لهذه البدايات يغطس في بحر هذه التساؤلات العامة الأولى.  ونحن كذلك سنكون غاطسين معه داخلها وباحثين عما يفسر جواهرها الدفينة   ـ  أهمية الرجوع إلى تعريف المقدس ومفهومه داخل حقل التحليل النفسي مع فرويد ويونغ مثلا، وداخل حقل علم الاجتماع ابتداء بدوركهايم، وحقل الدراسات الانثروبولوجية مع إلياد وغيره).

هكذا سننتقل للحديث عن مبتغانا من هذا المقال. عن مدى استمرار تأثير عمل المقدس في فهم واستعمال اللغة إلى يومنا هذا. كذلك عن مدى اشتغال اللاوعي الإنساني عند البعض أو الجل في توريط اللغة داخل المقدس والعكس كذلك.

في ملاحظة الواقع الحالي، ما نزال نرى حضور المقدس في تشكلاته المختلفة بين المعتقدات والفلسفات والعادات والتقاليد، أكانت خرافية أو غيرها. ولعل سحر الاستمرار يتمظهر في تملك اللغة واستعمالها كخطاب وشعائر ونصوص بالأساس وتحاليل وقصص وروايات.

استعمال اللغة تحكمه رموز متنوعة ومنابر عدة ومؤسسات مختلفة تتوزع المهام فيما بينها. استعمال أقل ما يمكن قوله حوله أنه حضور وجودي به يتم التفكر والتمثل والتصور والتجريد للواقع من أجل إعادة صياغته بنيويا داخل نسق حروف وكلمات منطوقة أو مكتوبة أو مرموزة.

هكذا يكون للغة دور في تفسير الحياة والحركات والأشياء... وربما معادلة العنوان عند ميشيل فوكو (الكلمات والأشياء) تسعف في تصوير هذه العلاقة الثناية بين اللغة والمادة والواقع الذاتي والموضوعي.

لو كانت هذه الدراسة أكاديمية لاحتجنا معها طبعا إلى سرد التعاريف المختلفة والمقارنة بينها حول اللغة كما حول المقدس... لكنها مقاربة تريد الإشارة الملمّحة لتداخل اللغوي مع المقدس في الحضور والتفاعل المتبادل في التأثير والتأثّر.

هناك ملاحظة قد تقترب إلى التفسير السحري الذي يؤثر ولا يُرى. يحدث سببياته في خداع للحواس. يمتلك الخفة التي تتجاوز قدرات المتلقي في التقاط المشهد وفهمه، فلا يمتلك حينئذ سوى التصفيق والتسليم بالخوارق اندهاشا وتعبيرا عن عجز في التحكم فيما يتلقاه بعقله ومنطق معالجته للأمور.  إن ذلك هو ما نحاول ضبط وقوعه في تعامل المستعمل للغة مع المقدس. ذلك الذي يؤمن بالمقدس او هو مهيأ بفعل التربية  والتكوين على تقبُّله كمقدس بفضل عامل اللغة التي تمارس سحرها وتختزن في لا وعيه عمليات القبول والتقبل لكل ما يرسله المقدس لفرده وذاته، حيث لا يحتاج إلى منطق أو عمل حواس أو تمييز بين الممكن والمستحيل في جل مضامينه. أكيد أن مناخا ملائما يجب أن يكون مهيأً لمثل هذه العمليات التي تشبه التركيب الكيميائي الممزوج بمقادير والذي يتم داخل المختبرات. لكن هذه المختبرات ستكون مناخ  وأجواء حياة أسرية واجتماعية ومدرسية ودساتير قيمية وقانونية وعاداتية وأعرافية تمتثل لها كل جماعة كيفما كان حجمها.

سوف نطرح سؤالا بدا لنا خلال عملية التحليل هذه، يرتبط بصيرورة المقدس عبر التاريخ الإنساني، وكيف استطاع أن يتشكّل ويتشرنق عبر مختلف مراحل تطور الوعي البشري، محافظا على تواجده وشرعية الاقتناع به عند معتنقيه ومبجليه؟ ورغم تطور العلم اليوم وظهور الحقائق الموضوعية والتفسيرات المنطقية والعلمية لمجموعة من الظواهر النفسية والوجدانية والروحية والطبيعية وغيرها، ما يزال فارضا منطقه ورؤيته ونسقيته القدسية والتي قد تكون غيبية بحكم ربطها بالوحي الماورائي، أو أسطورية خرافية بحكم ربطها بالحكايات والأساطير المسجلة في الموروث الذهني الإنساني، أو عاداتية نقلها جيل عن آخر احتراما وتسليما بصلاحيتها وفعاليتها في أسلوب ودروب العيش اليومي والمناسباتي الفردي والجماعي.

 

في الامتداد اللغوي

 

حقيقة، لا يمكننا تناول هذا الامتداد بسهولة داخل نسق أفكار جاهزة تعطل الاشتغال الحفري في عمق اللغة و تاريخها وتطورها. تاريخ يمتد إلى البدايات الأولى. هذه البدايات التي وقع شبه توافق بين الثقافات الرائدة للشأن الديني الغيبي على تغييب راهنية مواجهتها. ربما نقول إن هناك تساكن آني بين مرجعيات وسياسات وثقافات متقاطعة في مصالح. لكن إثبات هذا بأمثلة معاينة وموضوعية في الملاحظة سيكون صعبا ما دام أصحاب الخيوط الناظمة له متحكمين في وسائل تمظهره وتحققه.

الامتداد اللغوي للعلاقة بين اللغة والمقدس يرتبط بتاريخ ظهور كل عنصر منهما. وسيختلف في التناول بين العلماء والباحثين. فإذا كان المنطلق موضوعيا سنتحدث عن تاريخ النشأة والتطور. أما إذا كان المنطلق غيبيا تسليميا فسنتحدث عن تاريخ الظهور ووظيفة الوجود والاستمرار إلى يومنا هذا وإلى المستقبل. وهو نقاش  قديم بدأه مفكرون وباحثون منذ قرون، وطوّرته النظرية والفرضية الداروينية وما ارتبط بها من دراسات انثروبولجية وفيلولوجية ونفسية ومادية تاريخية... دراسات تكاملت في بُعد تناولها للظاهرة الدينية واللغوية وفي جعلهما مرتبطتين بتطور إنسان بدائي تفاعلت عوامل في انتقاله من مرحلة شبه طبيعية ومتوحشة إلى مراحل تحضر وتعقل واستعمال لهذا العقل ولهذه اللغة، مع ما صاحب ذلك من تطور معتقداته الذهنية والتي تفرعت إلى خرافات وأساطير واعتقادات صلبة ترسخت في وعيه كحقائق وكتفسير للظواهر وللأسئلة الوجودية والمصيرية. فحاول من خلالها تأسيس نظام علاقات بينه وبين المقدس، وبينه وبينه نفسه، وبينه وبين غيره. حاول تنظيم قوانين منحدرة من هذا الوعي وهذه العلاقة، خصوصا وأنه جعلها رسالة متلقاة من طرف الغيب أو القوة الخفية التي تخاطبه بوحي وتوجيهات.

الامتداد اللغوي الذي رآه العلماء في الطفل الصغير  وفي تطور النطق عنده. كذا في تشكل بنيات اللغة وتمثلها في وعيه كعمليات عقلية تنتقل من الخيال إلى الموضوعية النسبية في التلقي والتوظيف والتمثل السالف الذكر.

هذا الامتداد الذي لا نجد له كامل التفسير اليوم، خصوصا وأننا نرتبط بتفسير غيبي ووجداني يُسلّم ببداية خِلقية للإنسان. تأتي الأديان السماوية فتعطي ناموسا أوحد يجعل الفاصل في البدء وفي الختم. يجعل المعلم الأول والملقن الأول للأسماء التي ترمز للوعي والنطق وللغة وللفكر ولفهم العالم والمخلوقات والظواهر.

هو نقاش قديم قد يجرنا إلى استهلاك طاقة دون الوصول إلى نتيجة مرجوة الآن. فقط أننا استحضرناه واعتبرناه مهما في تناول علاقة اللغة بالمقدس فيما نريد تناوله في عصرنا الحالي. وللأسف كم من تحليل اليوم يغيّب نظرية التطور الموضوعي للغة وبنياتها وانتماءاتها الأسرية الأولى وكيف هاجرت هذه اللغات وكيف غذّت بعضها الآخر بالكلمات والمفاهيم والتصورات والثقافات الجديدة في العيش وفي العلاج للقضايا الوجودية والحياتية والتنظيمية. فلماذا هذا التغييب؟ ولماذا هذا التجاهل اليوم؟

في الامتداد اللغوي داخل المقدس الديني السماوي مثلا، سنجد حقائق ترسم رحلةً للغوي تراتبية ومرتبطة بالخلق ومرتبطة بالأساس بالوحي كذلك. نتحدث هنا مثلا عن اللوح المحفوظ كما ذكر في القرآن الكريم، وكما تناولته النصوص الدينية والتفسيرية.

نتحدث عن أول إنسان ، آدم عليه السلام. أية لغة كانت عنده، الأشكال الحوارية الموجودة في النصوص الدينية الثلاثة المتوفرة اليوم مثلا، ماذا يمكننا أن نستنتج منها في استقراء الظاهرة اللغوية داخل المنظومة الدينية السماوية؟ الحقول متباينة، لكن الاستنتاجات بعد كل بحث وتقصّ تأتي بملاحظات وإضافات جديدة، تُراكِم وعيا جديدا ومتطورا كما نرجوه.

وهنا التضارب واضح بين الرؤية الدينية السماوية للأديان الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية) مع الرؤية الموضوعية والعلمية البحثة المرتبطة بالملاحظات المعايَنة في الواقع وبالدليل المادي والأثر الأركيولوجي والاستنتاج المنطقي المتبلور معها.

 نجد إلى جانب الحديث عن اللوح المحفوظ الذي يسجل العلم الأول والكلام الأول الذي هو القرآن قبل نزوله، حديثا عن النزول المفرق والمنجم والذي سيكون بلغة عربية مثلا في حالة القرآن. هذا النزول الذي جاء بلغة جديدة تنفي أي تجنيس لها مشابه لكلام المجتمع الذي نزلت فيه. فالقرآن ليس بشعر ولا بكلام كهنة ولا بأساطير الأولين. نزول القرآن جاء تحديا وإعجازا، حيث لا يستطيع أحد الإتيان بمثله. هو كلام الله تعالى الذي لا يشبهه شيء من خلقه و في صفاته.

الكلام صفة تسمو لكي تكون مقدسة. والمقدس كلام إلهي سُجّل في الأزل وفي اللوح المحفوظ إذا. ما طرح إشكالية عقلية ومنطقية عند أهل الكلام، وما طوّر قضية بها سمي العلم علم كلام، في تساؤل حول القرآن: هل هو قديم أو مخلوق؟ وهي القضية التي أثارت إشكاليات كبرى تبحّر فيها التحليل المذهبي وتعددت المناهج المتناولة والمعارف المعتمدة في فكّ طلاسم الغموض.

رهان مذهبي ومنهجي تطور عقائديا وفكريا وسياسيا ومذهبيا وفقهيا، فولّد اتجاهات في التعامل مع لغة القرآن، وبين درجات القبول للتأويل والفهم العميق للنصوص من دونه، بحيث مثّل قطب التناول الدلالي طرفان أقصاهما ظاهري يأخذ بالمعنى السطحي للكلمات، وآخر عرفاني خفي يلج عمق الدلالات التي لا تتأتى إلا لأهل العرفان الذين ينصهرون مع المطلق في الوجود والحكمة والفهم للخفي والظاهر.

إن العلاقة بين اللغوي والمقدس امتحنت معها درجات الحرية في توظيف القدرات اللغوية المتاحة والعلوم الخادمة لها. فكل فهم عقلي يعارض النصوص سيكون مرفوضا ولو كان تساؤله مشروعا ومفروضا مع سياق الواقع والمنطق والموضوع المدروس.

هكذا أصبحنا نرى مؤولين في الاتجاهين. الأول يطوّع النص ليساير الواقع الخارجي فكرة أو ظاهرة، والثاني يطوّع الفهم للموضوع لكي يساير النص في دلالاته الظاهرة. وما يزال الأمر مستمرا إلى يومنا هذا مع تسابق الإثبات لإعجاز الكلام القرآني في المجال العلمي وتناول الحقائق الكبرى الكونية. ذلك أنه كلما ظهرت فكرة متشابهة مع إشارة قرآنية ، سارع أهل التفسير إلى إثبات أن القرآن تضمنها وسبق لها. أما إذا عارض ظاهره واحدة منها فيكون من الضروري التأويل بما يجعل العقل عاجزا عن الفهم ومعطلا عن الاستعمال الآني لما يقدر على فهمه وتوظيفه في حياة صاحبه.

 

إنها علاقة إنسان هو الرابط بين هذين العنصرين، وهو الصانع لعالم متخيل جديد ينبعث منه التفكير والتمثل والفهم للعالم. فالإنسان يمتلك بمخياله وطموحه الجريء والمملوء بفضول المعرفة والتفسير والتأويل، قدرات كبيرة ومستمرة ومتجددة تجدد خلاياه وتجاربه وتفاعلاته المتشابكة سواء قولا أو فعلا أو علاقاتيا.

هو ذا الإنسان، إذا تتبعناه منذ نشأته الأولى إلى يومنا هذا، وجدناه قريبا من السماء ومن سقف اللامرئي الذي يحجب عنه الحقيقة ويسرق منه حلم الليل الذهني. يحتاج كل مرة إلى إعادة صياغة العالم والكون في ذهنه. وحيث إن المقدس هو محطة الوصول النهائية لرحلة متعبة ومحيرة وغامضة، فإنه كل مرة يحتاج للراحة والاستراحة. لذلك قد يجعل كرسي الجلوس في محطة الارتياح، مقدسا يمتلك كمالات كل شيء. إنه الإله داخل اللغة. إنه الكمال داخل الحلم. إنه الاشتياق للسعادة داخل كدح الحياة. إنه الترقب للأفق البعيد الذي سيأتي بتأويل الحكايات. ولن تكون الحكايات سوى مرايا ينعكس عليها ذهنه الذي يبرمج ويتفاعل مع المادة والفكر، حيث إن العقل مختبر الاشتغال في هذه العلاقة التفاعلية بين اللغة والمقدس.

فماذا عن المؤسسات إذا كانت هذه العلاقة تفاعلية داخل ذهن الإنسان؟

حضور المؤسسات هو طبعا حضور للإنسان داخل حياة جماعية، يحتاج معها إلى نقل معارفه وتجاربه، إلى إثبات تصوره وتوجيهه داخلها. هو حضور ينتقل من البسيط إلى المركب. من الحياة البدائية البسيطة المرتبطة بالعشيرة والقبيلة إلى التجمع المدني المؤسس داخل مجتمع مدينة أو دولة.

هكذا ستكون التعاليم مقدسة وأعرافا محترمة وملتزَما بها، وطقوسا متدرَّب عليها تنتقل كتربية من الكبار إلى الصغار، ومن المهيمِن على المهيمَن عليه. وسيكون حضور اللغة  أساسيا في خيط التواصل ونقل الفهم وبرنامج التمثيل الذهني والسلوكي الذي سيتتبعه التابع للمتبوع.

على هذا المستوى وفيه نستنتج أن اللغة هي أداة هيمنة كذلك. بها نستطيع تملك عقل الآخر وإرادته، ما دمنا امتلكنا تفكريه وطريقة توجهيه لاختياراته. فما دمنا نحدد للإنسان عددا معينا من الألوان لكي يختار من بينها، فذلك سيعني حصرنا لتفكيره وتحكمنا في اختياره، وهي بداية استلابه طبعا.

ولعل أكبر طريق للهيمنة سيكون هو امتلاك المقدس ونقله بواسطة اللغة المهيمِنة إلى الآخر المهيمَن عليه بصورة من الصور. ذلك أن الهيمنة تكون عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية في أشكالها الأقوى. وحال مجتمعات مسلوبة الإرادة السياسية والاقتصادية خير دليل على المنافسة اللغوية الشرسة القائمة داخل حقولها من أجل مزيد من كسب نفوذ ومصالح وتبعية.