Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Le blog de mondevenir/imami hassanإمامي حسن
Le blog de mondevenir/imami hassanإمامي حسن
Menu
أقفاص 5

أقفاص 5

أقفاص 5
أقفاص 5

تركتُ خلفي داخل أسرتي التي أنتمي إليها أمي و أختي. أسرة بسيطة تعيش داخل مدينة تقليدية صغيرة. يتجاور داخل أسوارها و بين دروبها و يتعايش الناس بما أوتوا من قوة لمقاومة ظروف الفقر و الحرمان و الجهل. من كان يملك الجاه كان ينقصه العلم، و هو يلتقي في ذلك مع الفقير المعدم من علم و جاه. يتقاطع الجل ظروفا تجعل عدم استغناء هذا عن ذاك ضرورة عيش متكاملة. و حيث يرسم كل واحد منهم كرامته و يقوّيها كنت أنا من بين الذين شقوا الطريق بحظ  قدر نجّاني من الانقطاع عن الدراسة و الارتماء في حرفة من بين حرف كثيرة وعدتني بها العطل المدرسية التي رافقت طفولتي و دراستي و شبابي الأول.

كنت المتعلم عند الخياط و المساعد عند النجار و المسخّر عند الجزار و النادل عند صاحب المطعم الشعبي. كنت الكادح الذي يخرج في الصباحات الشتوية و بالكاد استقوى عودي في العاشرة من عمري لكي أعمل في جني الزيتون مع الكبار والصغار، النساء و الرجال. في الصيف تكون الرحلة مع البساتين و جني الفواكه الشهية كالإجاص البلدي و البرقوق بألوانه و أصنافه و التفاح اللذيذ الذي تهبه لنا عيون الجبال و الباكور و التين...

أمي كانت المسؤولة على تربيتنا أنا و أختي. تعمل في البيوت و تصبن الزرابي والأغطية في الوادي قرب منابع العيون، حتى في فصل الشتاء أتذكر بانها كانت تأخذني معها طفلا لجنان الزيتون كأنني أتهيأ لكي أصبح جانيا له في خدمة ملاكه الكبار و الصغار. أما أختي فقد كانت الملاك الذي صنعت له أمي هودجا يليق بمقام تهييء راحته و تحضيره لحفل متميز سيكلل بزواج ينقلها إلى بيت جديد وينقذها من جحيم كدح و حرمان و عذاب بحث عن قوت نادر و عزيز.

و تجترفني الذاكرة أنا طائر النار لكي تحرقني بنار أكبر و بألسنة لهيب زرقاء تفوق ما يشتعل في كياني السياسي من لهيب أحمر اتخذته رمزا للنضال داخل حركية نضالية عالمية تمتد بين الصين و شرق أوربا إلى أن تصل إلى أمريكا الجنوبية و كوبا... كان افتراض الاختيار داخل قدر الأحداث يعذبني كل اشتقت عاطفيا لحنان أمومي و أسري بريء و طاهر و عذري في دواخلي.

اصطنعنا سلاحا لمواجهة هذا الضعف. بل لنقل كان فلسفتنا لتحدي نقاط ضعفنا و لحظات وهننا. جعلنا افتراض تعدد الاحتمالات في محطات الحياة الماضية تهديدا لثقافة رجعية تريد النيل منا ف خفائها الشيطاني. لا تراجع للوراء. هدفنا مستقبلي و جنتنا الأرضية مستقبلية. لنُسابق الرجعية بفكر تقدمي يبحث عن هذه الجنة الأرضية بدل انتظار الأخروية. لنحررْ النفوس و لنبدأ بذواتنا من أجل هذه المهمة الصعبة. و ها نحن في مهامنا العسيرة و في امتحاناتها التي اختارت لنا الأسر والاعتقال و أشكال التعذيب التي تفنن الجلادون فيها إسوة بأقرانهم داخل النظمة المستبدة.

كنت أريد أن أجعل الدمعة التي تنحبس فوق مقلتيّ قنبلة أقذفها شرارة في وجه كل مغتصب و مستبد. لكن قلبي كان يذكرني بأنها دمعة اشتياق لأمومة  و أخوة، اشتياق لحبيبة و نعومة. أنت إنسان يا عمران. أنت مشاعر و أحاسيس. لست وحشا في الخلاء و البراري. لقد أرادوا منك ان تصبح وحشا، و حينها ستكون لهم شرعية جاهزة من أجل نحرك و التخلص منك. احتفظ على الإنسان بدواخلك. ستحتاجه لما سيأتي من أيام. ربما إذا عدت للحياة.

تعلمتُ رياضة جديدة كلما غلبتني مشاعر رقيقة. أرسل الدمعة و الدمعتين ثم أوقف العملية تحقيقا للتوازن بين الضعف و القوة، بين العقل و العاطفة. أقلّب الذهن لكي يشتغل ببحر الفلسفة و السياسة و التاريخ و حياة الشعوب حتى لا يسقط في متاهة ندم يرفض سياقه. و كان حراس السجن يحارون و ينبهرون لم يتجدد على لساننا من خطاب و كلام. يستغربون لكون هذه الواحات من الأفكار تنبت في صحراء السجن و قساوة مناخه و جفاف ينابيعه. و هو لا يعلمون بأن الجنة الخالدة قد سقيناها في عقولنا و أسكنتنا في جنانها أمنا الفلسفة.

سيأتي اليوم الذي سنخرج فيه من هذا الاعتقال. سيسألني البعض عن الرغبة في معاودته تعبيرا عن شجاعة و استمرار في النضال. ربما سأقف ناظرا له بطرف العين و لمحة بصر غير راض. ما الفرق بيني و بينك؟ لماذا لا تدخل أنت غمار التجربة؟ لكل عصر قضاياه و جنوده اللائقون لمعاركه. فلماذا لا يتجند كل جيل لمهامه؟

هذا السؤال الأخير استفزني داخليا. تُرى، هل انتهت مهمتنا و صلاحيتنا المجتمعية و السياسية؟ هل وجب التخلص منا كما تم التخلص من معتقاين آخرين طيّأً لصفحة تاريخ و بدءاً بأخرى، و ليتحمّل كل جيل و كل معني مسؤوليته فيما يقع حوله ومعه؟

استدرتُ أرتّب الغرفة  محتوياتها المادية القليلة، خصوصا  وأننا حصلنا على ميزة جديدة ننعم بها في سنتنا الثالثة في جوار صوت النوارس، إنها نعمة المراسلة المراقبة. و كأن أرواحنا مستعبدة و متحكم فيها. رغم أنني لم أستسغ وجود جهاز مراقبة على مشاعري لم أجد بديلا أفضل. راسلت أسرتي الصغيرة بالبلدة. وراسلت وفاء. تلقيتُ جوابا و ردا من الأولى، بينما لم يأت خبر عن الثانية. أقواس جديدة فتحت داخل هذه الأقفاص التي أعيش فيها.