ـ الذاكرة الموشومة ... الراس الموشوم ..
كانت جملته التي بدأ بها حوراه و مزاحه و نقاشه مع صديقه نجيب ... جملة ستعطيه متسعا من الحق في الكلام و الاستحواذ عليه ... أمام أعين الحارثي ، الذي يتابع حوارهما في هدوء هذه الليلة من أواخر يونيو ... جو ليلي عليل ، رغم حرارة الصيف الملتهبة خلال النهار ... خصوصا هذه اليلة التي ارخت فيها السماء دفئها على الأنام و النباتات و المخلوقات ... تفتح الكلام ن و بقي الحارثي محتاطا من إقحام نفسه في بداية الحوار ... فكلام طلبة الجامعة ، معانيه غريبة و غامضة و مخيفة ... علامات استفهامهم تشق صخور الجبال و تفتق ثوب السماء لترديه ارضا مدسوسة ، مدكوكة ... إذا تابعه بتأن سيطير فعل المخدر من الذهن ن و تذهب نشوته و تبويقته التي ترخي للحواس و تعطيها استراحتها من كل توتر يومي أو وجودي .. لم يكن يتوقع أن يسمع من عبدو مثل هذه الأفكار التي تغترب في الفضاء كاغتراب أخطر الجرائم و نفي اصحابها عن عيش الأمان و المجتمع ... كل مرة يتطرق لموضوع يريد به زعزعة ثوابت الحاضرين، بأسلوب لطيف و ابتسامة هادئة ، و طريقة متحرجة خادعة ... ما هذه الذاكرة الموشومة ؟ علامة استفهام قطّبَتْ حاجبي الحارثي ، واستدار معها نجيب العوفي ليقابل وجها لوجه صديقه المشاغب بالأفكار ...
ـ إذا كان صاحب الفتوة ن طارزان الحومة ن مبحوث عنه في جرائم سرقة ، فأنت سيبحثون عنك في جرائم أفكار آ سي عبدو ... أكيد ... المشكل هو : هل يسمحون لي بزيارتك أم لا ؟ السياسيين يغبرونهم ...
تتهمني دائما آ صاحبي .. أُنظر لهذه الحفرة في رأسي ... تلَمّس جلدها .. ألا تلاحظ أنها أثر حفرة ؟
ـ نعم ... ملتصقة مع عظم الراس و غائرة ... أين نلت هذه الجائرة . فلقة بوليس سفسي الجامعة أم صراع بين الطلبة ؟
ـ آ سدي هذه تشييرة بحجرة من يد ( سرغوشن) ، الله يرحمه ...
ـ رماك بالحجارة على راسك و ما زلت حيا ؟ العجب هذا !
ـ لطف الله ... كنا مارّين بالقرب من شجرته ( الزبزوفة ) ... اثاره احدٌ منا بقذيفة كلام : الزبزوفة احترقت ... هاج غاضبا ... أمطرنا بوابل من الحجارة ... لم ينل حظه منها إلا أنان ...أليست وشما من ذكريات الطفولة ؟ ها هو الرأس موشوم ، و الذاكرة موشومة كذلك ...و أنت يا صاحبي تتهمني بكلام المجرمين و التفلسف و السياسة ... حرام عليك ..
ـ تعلم أنك حينما تريد تركيب الكلام ن تدس ما تشاء ... مثلا الآن لماذا الحديث عن الذاكرة الموشومة و أنت تريد عن وشم فلقة على رأسك ؟ ... حيَلُك لا تنتهي ... إنما قل لي : هل تعلم قصة ( زبزوفة ) سرغوشن ؟
ـ لا ، فقط أنه يسكن أعلى المنحدر الذي توجد فيه الشجرة ... مطلا على الطريق المؤدية من سيدي محمد ن قاسم إلى طريق و قنطرة سيدي صابر ، و على حافة الوادي اسفلها حيث مسبح ( العزاني ) الطبيعي الضيق و الخطير بصخوره الواقفة كجدار مائل ...
ـ آ بّا الحارثي ... واش تعرف على الزبزوفة و سرغوشن ؟
ـ كلها و حاله ... واحد ساكن في حجرة ن و الآخر ساكن في شجرة ...
ـ يوم أتى الباشا و المخازنية عند سرغوشن ، حينما منع عمال البلدية من القيام بعملهم في تةسعة الطريق بمحاذاة مع شجرته الزبزوفة ...؟
ـ نعم ، سمعت بذلك ... لكنني لم أكن حاضرا يومها هناك ...
ـ نزل الباشا من السيارة ... سبقه المقدمون و المخازنية ... نادى أحدهم على سرغوشن من بعيد احترازا من غضباته : تكلم للباشا آ سرغوشن !
ـ ما مشكلتك مع عمال البلدية ؟ سأله الباشا .
ـ حذرتهم بألا يقتربوا من الشجرة .
ـ لكن الشجرة بعيدة عن الطريق ن لن يقطعوها ...
ـ اسمع آ سي الباشا ... هل تحب أن يدخل الغريب لمنزلك و زوجتك فيه ؟
ـ تكلم بأدب مع اليس الباشا آ سرغوشن ! يصيح أحد المقدمين .
ـ طبعا لا ... ابتلع الباشا ريقا ناشفا وهو يرد جوابا على سؤال مفاجىء و غريب و غير متوقع ...
ـ إيوا الشجرة حُرمة كذلك ... ملك سرغوشن ...لا أحد يقترب منها .
ـ لكنها بعيدة عن الطريق .. يؤكد الباشا .
ـ حُرمتها و حدودها هي ظلها ... بقدر الشمس ، بقدر الظل ...
...
ـ واوْ ... استغرب و تعجب عبدو للجملة الأخيرة ... قياس رائع هذا للحدود ... بقدر الظل بقدر الشمس ... ايهما أولى بالقياس ؟ الشمس أم الظل ؟ ما مقام الشجرة بينهما ؟ هي المحور ... التغذية بنور الشمس و الحماية بظلها من أغصانها ... يعني أن باقي الأشجار كذلك ستكون على مسافة بعيدة عنها و ليس الطريق فقط ...
ـ يبدو أن الفهامة بدأت تكبر عندك بسبب تلك الوشمة المحفورة في راسك آ سي عبدو ...
ـ انتظر ... ! هذه نظريةكونية بين النور و الظل ، الليل و النهار ، الضياء و الظلمة ... سأجعلها فلسفة كبيرة ... في وقت ما في الماضي ، كانت هناك ضريبة الظل ... إذا أردت أن تستفيد من الظل ، عليك أن تؤدي ثمن ذلك ... أما سرغوشن ، فهو يحمي ظل شجرته ، و من حقه ... تلك حدودها ... هل تعلم أن النباتات تمتلك آليات دفاعية سائلة و مشمومة بالرائحة ... يجب أن نبحث عن نوع الشجرة ، شجرة سرغوشنو آليات دفاعها إن كانت موجودة ... باعتبار هذه القصة ، فهو ليس بأحمق ، نحن الحمقى ...
ـ آليات الدفاع هي الحجرة التي فلقت رأس كذلك آ سي عبدو ... آش تقول آ بّا الحارثي ؟ يتوجه نجيب بالكلام معه ...
ــ إذا كان سرغوشن أحمق ... فانا كذلك أحمق ... واش كل واحد شاد واقره احمق أو من يدخل الفضول و شؤون الناس ؟ راه الناس الذي يؤذونه بكلامهم و تجريحهم ... حيث الفقير و الغريب و ابن السبيل ن ما عندهم من يحميهم ... حتى الأطفال يرشقونهم بالكلام و الحجارة ...ابحث عن التربية :!