طبّاخ الجنرال ـ 2

الفلاحون الصغار:

مصائب قوم عند قوم فوائد:

أصاب القحط والجفاف مناطق عدة من البلاد. ضاع الناس في مجهودهم كل سنة. ذهبت ماشيتهم التي لم تجد ما ترعاه فبيعت أزهد الأثمان. هاجر بعضهم إلى المدن القريبة او البعيدة وترك فلاحته وأرضه. الأولاد والزيجات تزداد أفواههم لهفا واتساعا وظمأ وجوعا، كأشجار ازداد طولها وانعدم سقاؤها، تواجه زرقة السماء باحثة عن جرعة وعن أمل...

كانت أرضا منسية فعلا فوق هضبة ممتدة وبعيدة عن النهر لكبير. كانت مهمتي التي ائتمنني عليها سعادة الجنرال دون غيري فجعلني الوسيط الرئيسي في كل صفقة. طلب مني عدم ذكر صفته وشخصه في كل واحدة منها إلى يأتي يوم الكتابة للعقد ويفسر الكاتب له الأمور ببساطة لا تضر ولا تغير شيئا مما اتفقنا عليه. فعلا تم عرش الشراء للأراضي الفلاحية المهجورة من طرف أصحابها. هناك من باع ولو بنصف ثمن أو أقل، وهناك من جعلها طريقا إدماج بعض أولاده في الخدمة العسكرية ومجالها، وقد أصبح يوم كل سوق يوم اللقاء مع الفلاحين الصغار. اكون أنا المدير العام للصفقات حيث لا مشكلة مطروحة في السيولة المالية ولا في الأوراق الإدارية ولا في الحلول الإدماجية. فأن يضمن الأب توظيف ابنه براتب خير له من بقاء أرض أصبحت لا تدر نفعا.

كل شهر آتي بملف يتضمن أسماء البائعين ومساحة أراضيهم ومواقعها وثمنها المقترح، كذا لائحة الراغبين في ولوج حياة العسكر. اكتشفنا خلال هذه العملية أن هناك من يغتني بالارتشاء باسم الجنرال دون أن يعلم هذا الأخير، فيعده بتقديم الطلب في الإدماج للجنرال مقابل مبلغ معين من المال. ولسذاجة الناس وظروفهم وخوفهم من كل خطإ ينصاعون لابتزازات هؤلاء السماسرة. ولأنها القبيلة عموما فلا يتم الزجر بأساليب قاسية.

يوافق سعادة الجنرال على كل أو على جل ما في الملف ثم تكتمل العملية بإدماج الأرض الصغيرة في الأرض الكبيرة كحوت يبتلع سمكة شريدة. بينما ابتلع التجييش أو المدن المجاورة زحف المهاجرين من الهاربين من قساوة الجفاف والفقر فارتموا على شواطئها الهامشية في انتظار تحسين الوضعية. بعد سنتين ونصف تقريبا أصبح الضيعة ما شاء الله تعالى شاسعة وكبيرة، وبدأت الورشات الكبرى فيها المتعلقة بالفواكه وتربية الأنعام والبقر والماشية... الله يعطنا شيئا من حتى هاته.

لا أخفيك أيها الفضولي في المعرفة، كلما قرأت أو سمعت آية القرآن حول صاحب الشاة الواحدة وصاحب التسع والتسعين، أتذكر هذه القصة. لكني أصارحك القول انه لم يكن هناك ظلم في ما وقع.

ـ ربما نتحدث عن استغلال الظروف؟

ـ ربما. لكن نية الظلم فيها لا. وأنت تعرف بأن أي مفلس يبيع بأبخس الأثمان.

ـ أراك مقاولا في العقار والأراضي ولست بطباخ يا طباخ الجنرال.

ـ أنت تريد أن تعرف وأن أعطيك المفاتيح حتى أرتاح من عبء الذكر والتذكر والرواية. حمل كبير أفرغه الآن. ما تحمله هذه الجمجمة يحتاج إلى رصاصة ذهبية لكي أستريح.

ـ ماذا سيفعله سعادة الجنرال بأراض قاحلة؟ كيف يستطيع تحويلها إلى ما قلت من خصوبة وإنتاج؟ ولا ماء !؟

ـ بل قل لي: ماذا سيفعله بأموال طائلة؟

ـ من أين له هذا؟

ـ اِسأل البرلمان. لماذا تسألني أنا؟ اسمعْ لدروس التاريخ واستفدْ !

بلدنا الحبيب معتادٌ على سنوات الجفاف، وخلالها يفتقر البعض ويغتني البعض الآخر. تم التخطيط لمشروع بناء السد قبل هذه المحطة الزمنية بسنوات، ومنه سترسم الخريطة كما فوق أرض الواقع قنوات مائية اصطناعية بحيث إن المنطقة لن يعود فيها خصاص في الري أو السقاية. لم يكن للفلاحين الصغار علم بما سيكون عليه الأمر بعد خمس أو ست أو سبع سنوات. كل الأمور تم التخطيط لها داخل الإدارات بالعصمة وداخل مراكز القرارات.

هكذا اشترت علية القوم الهكتارات الكثيرة بأبخس الأثمان. هو يعرفون كيف تدار عمليات المراهنة والمزايدة والمناقصة. يدركون قيمة شراء الأسهم وانتظار صعود قيمتها في السوق. عندهم أموال فائضة زاحفة على كل فكرة مشروع آت.

هاجر الفلاحون الصغار إلى مراكش و أغادير وبني ملال وإلى بعض المدن الصغيرة التي يستطيعون بدء إغاثتهم فيها بالتدريج. انخرطوا في العمل اليومي والبيع بالتقسيط والسكن الهامشي والتسول وأشياء أخرى. بُني السد خلال عامين، وفي العام الموالي اخترقت قنوات الري التراب الاحمر الذي لم يبخل ولم يخن عهده ومهمته. إذا ذهبت الآن إلى الهضبة ستلاحظ جنات وغزلان ونعام وفواكه دانية.. يمكنك الآن أن تنظر إلى كفتي الميزان وإلى رقاص الزمن الذي يتلاعب بهما.

ـ ألمْ تلعب دور الرقاص يا طباخ الجنرال؟

ـ أنا؟ أنا مجرد أداة تتحكم فيها يد يد سعادة الجنرال الذي يُحكِم قبضته على كل شيء. كنت أداة تنفيذ ولم أعِ المخطط إلا بعد سنوات. أروي لك ما أرويه هنا لكي تعلم أن الاستفادة من الكعكة تحتاج إلى حسن اختيار الكرسي وحسن استعمال الفورشيت والسكين دون ترك بقايا وآثار على الطاولة تخدش بلمعان المجال.

ـ وماذا امتلكت أنت وكسبته في كل هذا؟

ـ أكيد لم أقبض على الرصاصة الذهبية، لكن ما أقوله لك هو أنه فضول في السؤال لا يعنيك جوابه الآن.