Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Le blog de mondevenir/imami hassanإمامي حسن
Le blog de mondevenir/imami hassanإمامي حسن
Menu
طبّاخ الجنرال ـ 1 ـ

طبّاخ الجنرال ـ 1 ـ

طبّاخ الجنرال ـ 1 ـ

طبّاخ الجنرال

أن تكتب عن جنرال فهو أمر ليس بمحمود. سيمتلك النفوذ والسلاح والسلطة والمال والمأمور بالتنفيذ. وأنت؟ لا تمتلك سوى قلمك وخيالك. وقد يسعفك الرقن فتسترسل في تصورات تستقيها من مشاهداتك ومقروءاتك، وكذا مسموعاتك.

لكنني أندهش من كون المسموع هنا كان له وقع أقوى من باقي المداخل. ألأنني لم أرَ شيئا؟ كان له وقع أقوى من باقي المداخل. ربما الصوت وسوسة وشوشة، إلهام ووحي، خبر يسري استراقا فيتسلّل مع السرعة بُراقا، فيستقر برّاقا، ويدق نواقيسه أبواقا.

ها أنت تقفقف. والقفقفة تذكر باصطكاك وقرع واهتزاز. تشاطح قلمك مراوغة، لكنك أصررت على المغامرة. وما دام الحديث هنا ليس عن الجنرال فسيكون حكيا عن عن طباخ الجنرال. ويا ما قرأنا لأسرار عبر قناة الأخبار المتسربة مع روائح الطعام أو تشوّط رؤوس ونفايات وإدبار. يا ما كانت مذكرات أطبائهم ومهرّجيهم ومستشاريهم أو ضحاياهم، طريقا لعكس الأدوار وإعادة صياغة هذه الأخبار.

كفانا ثأثأة مع الحروف أو سجعا مع الظروف، ولنترك للسيد الطباخ الكلمة والتعبير:

أنت تريد حديثا عن العجائب وأنا مللت حدّ التعب هذا الجهد رغم النعم والمراتب. أنت تبحث عن الغرائب في حياة الجنرال، وأنا أعلم أنه كم من طباخ إذا ما طال لسانه وتطاول على صاحب النعمة في غدوه ورواحه ومسائه، سيكون ضحية لسيده وولي نعمته، أو على الأقل سيخضع لتفتيش الضمائر وترهيب مراتب النفس حتى تعلم خطر التطاول على خبايا السرائر. والخطر أن مهنة الطبّاخ فيها اشتراك في الطعام، وهو أكبر عهد وصك ثقة يقام بين الخلائق والأنام. الاشتراك في الطعام اشتغال أحشاء واطمئنان على الأحياء والأشياء، وأمان على وبين الشركاء. يقابله في الدنيا والآخرة الغدر والخيانة والعقاب بالنار في هذه قبل الأخرى الآخرة.

هنا بيت القصيد ففي مغامرة حكي الطباخ الجديد. إنما سيقتصر غفلة على المدهش والعجيب، واللذيذ والغريب، والمشتهى الذي لا يحب سامعُه منتهى. لن يكفيَك وصف الآيات والملحمات، ولا الأساطير والروايات. أنت تريد أن تعرف عن الجنرال من خلال طباخه. يا لفضولك الغريب !

إنّما أحذرك. إن كنت ممن يسيل لعابه لشهوات ووصفات الطبخ ولذيذه فاقتصر على مصاحبتي وطلبي ومؤانستي. اقتصر على زيارتي بعد انتهاء كل سهرات سعادة الجنرال. أعدُك بأنك ستأكل حتى التخمة إن كنت طفيليا، أو ستتذوق روائع الموائد العالمية إن كنت متذوقا عاشقا. وأنبّهك، فأنت ستأكل فتات الموائد رغم أنها مكتملة وطرية. ما رأيك؟

قد أبدأ الحديث عن حمية غذائية دقيقة وراقية. وقد تكون خيوطها مدخلا يفتح أنوار مصابيح أسراره الداخلية. ما يشتهيه بحسب الفصول والأماكن الجغرافية التي يتنقل لها، وما يشترطه في طريقة طبخها، وما تطوّر في تذوّقه فأصبح توازنا خاصا به ملائما لكيانه، وما يفرط فيه حتى إنك تصبح متهما بتسبّب تسمم أو إسهال أو حمى أو زيادة ضغط... وما يرضي ضيوفه وسهراته حتى إنك كذلك تركب متن شيء من حتى، لأن حتى تورطك في كل وضعية، فلا بد لك أن تسأل عن مدى إعجاب أو قَبول، ومدى ملاءمة ذوق أو قياس، ومدى كفاية الطلبات. والحديث عن الضيوف حديث عن مدارس عالمية في الطبخ والذوق والعرض والتقديم. فلك إن كنت طبّاخا أن تنجح خلال كل هذا.

ولأن المشترك في الطعام قطعة من الجنة أو النار، فإنك تكون على صلة بمائدة الأسرة وسهرات المساء والإفطار... وأخطر ما في الأمر أن يصبح الطباخ ضرورة في مرافقة الجنرال في كل الأسفار. فعن أي موطن تريد حديثه عن الجنرال؟

يعيش الطباخ مراحل تاريخ قصره، في مجده وأفوله، صحته وسقمه، أفراحه وأحزانه، عزلته واحتفالياته الجماعية الباذخة. يلامس نِعم الدنيا ولذائذ فواكهها وخضرها ولحومها وسمكها، يصنع العجائب بالوصفات، ويخضع لتكوينات مستمرة قد يموّلها من جيبه الخاص لأنها سرُّ عطائه واستمرارية قَبوله وإزاحته لكل منافس له في المنصب والمهمة. وقد تكون الثقة والدربة والتعوّد أكبر ما يضمن له البقاء مع الولاء والهناء مع الصمت في العطاء.

ولأن الحديث مع طباخ الجنرال قد يأخذ طابع المذكرات أو اليوميات، فما الذي سيميزها ويعطي الاختصار في بلوغ مراميها؟ سيشوقنا بأخذنا معه في رحلته الأولى:

ـ طيب. سآخذك إلى ضفاف بحيرة سد مائي. ولكي تعلم، فإنه أُريد لها أن تكون مكانا ترفيهيا للسياح ولجذب المستثمرين في مجال الصناعة السينمائية بمخرجيها وممثليها وتقنييها ذكورا وإناثا. أوَ تعلم بكم بيع المتر المربع؟ بعشرين درهما. أوَ تعلم من استفاد من العملية؟ علّية القوم. أوَ تريد أن تعرف أكثر؟ ابحث في الميدان جازاك الله خير أجرك.

هكذا كانت الإقامات الفاخرة والممتدة مع منبسط الرمال، تُسقى خضرتها الجديدة برشاشات وتخترقها قنوات مجاري مياه لتملأ المسابح وتنعش أرضيا لعب الغولف والحدائق المحيطة... جنة منفلتة من قحولة خصوصا إذا كانت الطريق بحرارة أشعة الشمس الحارقة والصخور اللافحة، والتي تقعسك وتخوفك، لكنها تدعوك للتحدي والمغامرة مع كل منعرج أو أفق منفلت مع سراب، ولو كنت آتيا من المطار القريب، ولو رافقك نجوم ونجمات السينما في الرحلة، ولو... إنك تشعر بمكان عالمي جديد يجمع الاجناس والمشهورين والمشهورات فنيا وسينمائيا. فكيف لعلّية القوم ان تضيع فرصة هذا التجاور، لكي تشعُر وتشعِر بالتفاخر؟

أرى خيالك سافر مع هذه الصورة، فلكي تعلم بأن طبّاخ الجنرال يسبقه في الرحلة بسويعات لكي يرتب داخل إقامة السد بما أحضره واستحضره وطلبه كل ما يشتهيه سعادة الجنرال.

سأدهشك ! مواسم الصيد في هذا السد لشريف تناسب زيارات سعادته له خلال فترات مفرقة في السنة. وسأفاجئك بقولي إن شاطئه الممتد طولا يجاور شاطئ شيخ صوفي كبير الشأن في السياسة والمعارضة، وشاطئ وإقامة مخرج أمريكي اشتهر بأفلامه بمواقع وأطلال وهندسة مدينتنا السينمائية. وإذا زامن حلول الشيخ حلول الجنرال يكون اللقاء الخاص بين من يمتلك قوة العسكر ومن يمتلك قوة الروح. يتبع الشيخ لخلوته الرفيعة قوم كثير من الرجال والنساء وهم من الأتباع. يقيمون الخيام وينتظرون برنامج الاصطياف الذي يسطّره الشيخ الكبير.

ـ لكن قل لي: كيف يتزود هذا من ذاك؟ أو.. حدّثني عن الشيخ أكثر. ماذا تقول؟

ـ أحمد الله أنني معفي من تحضير طلباته. لكن ما أعلمه وأكيد هو أن فندقا مصنفا بخمسة نجوم يتكلف بإطعامه وشرابه وطلباته. تُحضّر الوجبات يوميا له ولأتباعه. ولا أخفيك أمرا وعجبا، فإن أتباع الشيخ كثْر بحيث يصبح اصطيافه أو تخييمه قِبلة لهم كأنه موسم مبارك، حتى إن الأمن بجميع أجهزته يوضع للخدمة والأمن والأمان وتوفير النظام، فلا إزعاج حينئذ.

ـ مبارك؟

ـ تصوّر أن الماء الذي يستحم به أو يتوضّأ به الشيخ يوّزع بين الأتباع الذين يتهافتون على التبرك به والاستحمام به أو التوضأ والاغتسال. وأنا أقول دائما مع نفسي: تلك عادات الجهلة مع الأضرحة، فإذا هي مع الأحياء كذلك ! وبعودة الجنرال من جلسة الشيخ تتغير السهرة وبرنامجها. أطباق سمك وكؤوس من أثير.

ـ ماذا؟

ـ انتظر حقك في الآخرة، أو اذهبْ للذكر مع الشيخ، أفضل لك. أكون مطالبا خلال إقامته ببحيرة السد بنوعيات خاصة من التحضير. تجد رحلات جوية خاصة بها وأنواع سمك مطلوبة فيها، وجلسات شراب مغلقة إلا على البحيرة والشاطئ ونجوم السماء. فأكون الساهر على المراحل، لا أنام حتى تنتهي مقامات كل ليلة. وكل ليلة لها شأن خاص.

ـ كم من إقامة يمتلكها الجنرال؟

لا جواب.

 

 

المسدس الذهبي:

يوم استدعاني لمكتبه الرئيسي، حيث عاد من رحلة علاج مستعجلة، نقل خلالها على وجه السرعة خارج البلاد، طمأنني على صحته وعلى لائحة الاطعمة التي حظرها الأطباء عليه، يومها وجدته فاتحا علبة حمراء يقوم بتنظيف محتوياتها. لم تكن هذه المحتويات يوى مكونات مسدس ذهبي صغير وبعض رصاصات إحداها فقط ذهبية.

لاحظ سعادة الجنرال اندهاشي وفايَ المفتوح والمفرغ من الهواء. ابتسم ونبّهني بقوله:

ـ اسمعْ يا طبّاخنا العزيز، أنت فرد من العائلة ومن جلساتي وسفرياتي كذلك. سأسلك سؤالا لأرى إن كنت تحبّني فعلا: هل يمكنك ذكر ممتلكاتي كلّها؟

وجدت في السؤال حرجا، وكل محاولة جواب تطاول هي. بدأت بذكر أن من أحبه الله تعالى فتح له خزائن الأرض وبحارها وحتى طيور سمائها، وجعل رزق العباد على يده أيسر وأفضل من أن يكون بيدها، ونحن كلنا نعيش بكرمك وفضلك وجودك علينا.

دعوت له بالرزق الوفير والصحة والعافية، وشكرت الله على أنه جعلني طبّاخ سعادة الجنرال، أهل للكرم والجود والصفح. يومها منحني بقعة أرضية قريبة من ضيعة موطن ولادته ونشأته الأولى. لكن كل هذا لم يشفع لي في التهرب من الجواب. عددْت ضيعاته بأسمائها العزيزة عليه: يطو، الغالية، الكبيرة، شامة، فيلاته وقصوره، ذكّرتُه بالصغير منها فكاد يبتسم لكونه قد نسيَها وأهملها...

ـ أهذا كل ما تعرف يا طبّاخنا الماهر؟ اِعلمْ أن ممتلكاتي بالخراج كما بالداخل، وأن أولادي وأقربائي جحظت عيونهم هذه الأيام فارتسمت خرائط طمع على محياهم، حتى ابتساماتهم أصبحت عريضة وأصواتهم تخونهم معها فتكون في ضحكاتهم غليظة... قد لا يجدون تفسيرا لكوني أغضّ الطرف عن كل صغيرة أو كبيرة يقومون بها، وعن كل سلطة يمارسونها باسمي فيتطاولون على كبار المناصب ويقضون ما يريدون من المصالح.. قد يحاول بعضهم التماس عدم الإشارة لأفعالهم في حضوري أو حين مهاتفتي من طرف البعض... لكن ما لا يعلمونه أن كل صغيرة وكبيرة تدون باسمي وترفع معها التقارير إلى مراكز عليا وقيادات أعلى، ثم تعود إليّ في شبه إشراك لي في كل قضايا البلاد، حتى لا تكون قراراتي حيادية أو انحيازية، وحتى أعلم أن كل ما وصلت إليه هو بفضل هذه النياشين التي قد أستحقها أو لا أستحقها. ربما في يوم ما سأقف بقامتي هاته وتنزع مني بالتدريج فأجرد من هذه وتلك  أو تعود لي إقامة إجبارية كما كان لشيخنا صاحب الكرامات، جارنا في البحيرة. وما لا يعلمه البعض أن الجنرال قد تخونه قوته فتكون أول ما يلقنه الدرس الذي علّمه في البداية للآخرين، درس التصفية ببرودة دم أو اوامر عليا. والعالم مليء بهذه الأمثلة. لذلك ترى هذا المسدس الذهبي أمامك. فأنت أول من يراه أو آخر من يراه. أنظرْ إلى هذه الرصاصة الذهبية! فهي لها لغتها الخاصة بالجنرال. تقول لي ساعتها: إذا كنت شجاعا، فانا خلاصك وأنا رصاصة رحمتك ومرافقتك إلى قبرك ومثواك الأخير إن أرادوا لك قبرا ودفنا وتشريفا. رصاصة تذوب أشلاؤها بسرعة اختراقها فلا يعود لها أثر إلا ما كان من ثقب ولوجها وزيارتها لجسدك. وهي أصدق زيارة وأكبر حقيقة واضحة حينئذ. وإذا لم تكن شجاعا فاخترْ إحدى هاته الرصاصات، تشلك ولا تقتلك، وتجعلك لا تعيش الألم الخارجي لأن ألمك  الداخلي حينها يكفيك. لكن وعيَك لا محالة يقرأ المذلة. فما الذي تختار بين الشرف والمذلة؟ حينها، قد يكون فضولك في معرفة أسرار ما آل بك هو يجعلك وعيك يريد أن يعيش هذا الألم لكي يتعرف على أسرار الحكاية.

أية أملاك يا طباخنا العزيز. كلها لا تساوي شيئا أمام مثل هذا المصير. ربما صنعت لحاشيتي ودائرتي مراتب ومناصب وممتلكات فأصبحوا من طبقة الاغنياء أو في طريقهم إليها، لكن الجنرال لا يهمه شيء من هذا، فمنصبه هو كل ما يملكه وهو سر قوته وهو غناه الحقيقي. إنني لم أبُح لك بهذا سوى لتعلم بأنك  المقرب الوحيد لديّ الذي يصنع طعامي ويحضّر لي شرابي ويضمن لي سلامة ما اتناول وقاية من كل تهديد وأمنا من كل انتقام. ها أنا الآن بعد تجربة المرض هاته أكتشف الحقيقة الطبيعية التي تبقّت لي. لقد منع عليّ الأطباء احتساء المشروبات الكحولية، والسيجار الكوبي العزيز. وهل هذا المجد الذي بنيناه َحقّق بدونها. ستكون سرّي المستمر في عدم سماع توصيات الأطباء والمقربين متى قررنا مخالفة نصائحهم. اِبْقَ على عهدك مع الجنرال، حتى لو استطعت بنصف مشروباتي ووصفاتي.

سيتصبّب هذا الطباخ الجالس معك الآن عرقا، ويندّ وتشتعل حرارته وهو يشعر بانكماش متسارع لذاته وأعضائه وخلاياه في كرسيّه، سامعا، مطيعا، مؤيدا، وملبيا. كل من سيعيش وضعية طباخ الجنرال سيشفق على حاله. أصبحت الأسئلة سهاما تخترقني فتقتلني وتفتتني إربا، وتحعلني أتمنى أن أموت قبل موت الجنرال، فذلك أهون. ماذا لو مات الجنرال؟ ماذا لو اتهموني بقتله؟ أأحاكم على كل هذا؟ !

رأس السهم وقد انغرس في أحشائي فبدأت أعدّ ما تبقى لي في حياتي.