بلغة شاعرية ، هل يمكن القول إن التحرر عطش يحتاج إلى ارتواء ... إذا كان عطشا ، فإنه حرمان و خصاص ... ويمكن لكثرة القيود و الاغلال ان تكون تكبيلا و حرمانا ، وبالتالي سيكون هناك ظمأ و عطش و توق لتلبية و تحقيق ... سيرتبط كل هذا بذات الإنسان و جسده و غرائزه و متطلبات وعيه و تفكيره و سلوكه ... هكذا ستكون الوعود التي تعطى لكل طامع في التحرر مرتبطة بهذه الجوانب و هذا الارتواء ....من صور الجنة إلى الحلم الشيوعي ، إلى بدائل الحاضر التي تعمل الخُطبُ على الإغراء بها و الوعد بتحقيقها ...
لعل الارتباط بالخطب السياسية يرقى الى درجة الارتباط إذا بالخطب الدينية ، التي ما تنفك تجدد وعدها و وعيدها ، فتجعل إشراطية مستمرة و منبهة و مكبلة للحواس كل مرة بما ينتظر البنية النفسية قبل البنية الجسدية من اثر و جزاء على الوفاء أو الجحود لذلك أو هذا النداء ...
و لعل القوة التي يمتلكها كل خطاب في الاستمرارية يجب أن يبرهن عليها من خلال الفعل في الواقع و القدرة على التحكم فيه و تغييره ... يكون هذا الأمر صحيحا حينما نرى ارتباط الإنسان بما يعاينه قولا و عملا ... وعدا و أملا و تحقيقا ... حتى اذا ما تلاشى الارتباط ، تلاشى الاندهاش و الإشراط و التأثير الذهني و النفسي و السلوكي ...
تبدو المسالة معقدة في الوصف و التتبع ، لكنها تبين لنا أن التحرر هو عملية نفسية متأثرة بما هو حسي و ما هو واقعي يوجهها و يلبي رغباتها أو يردعها فيرجعها الى غمدها لتنكمش دونما حلم بالانعتاق من السقف المرسوم و الأفق المحدد للحلم و التوق و الطمع لكل فرد من الأفراد ...
و يزداد التعقد ، فينقلنا الى تبسيط آخر ،يبين أن عملية التحرر داخل مجتمعاتنا عرفت تراجعات على مستوى القناعات التي جعلتها انعتاقا من قيود القرون الوسطى في الفكر و المعتقد ، وفي حرية السلوك و الاستفادة من الحقوق ...تراجعات اضعفت قوة العقل و أرجعت قوة التسليم بالقدار و التفسير غير العلمي للأمور التاريخية و الاجتماعية و الثقافية ... الأمر الذي سهَّل على البعض تحويل التعامل مع مشروع التحرر الى استفادة ذاتية من معطيات المرحلة التي يعيشها المجتمع في جدلية المد و الجزر بين التحرر و النكوص ، بين التقدم الى الامام و التراجع المستسلم لنفعية الراهن و نفعية الذات داخله ...
الأخطر في عملية النكوص هو هذا التناقض في البنية التكوينية و السلوكية لشخصية الفرد الواحد عندنا ، بين ادعاء خطاب حداثة و تحرر ، و بين انقباض منها و هروب الى فكر معاكس يتنكر لها و يفر للنجاة منها خوفا من وعيد خطابات مناهضة لها ...وهو بين الأمرين يستغل الفرص المتاحة ليقتنص أكبر قدر من الاستفادة المادية و الانتهازية للفرص و التسلقية المتدرجة طبقيا في التموضع و التحقيق للامتيازات و المصالح ...
انتهازية تجعله يفبرك خطابا ملفقا هجينا ، غير متماسك منطقيا ، حربائي ظرفيا ... ، كل ذلك من أجل ضمان بقاء المصالح و ولاء المحاريب و الزوايا التي جعلها لخضوعه مقابل استفاداته .. قد تكون هذه المحاريب زوايا دينية او اعتاب سلطوية او مؤسسات مناصب راقية ... و النتيجة أننا نجد فئات انطلقت من خطاب حداثي متحرر و آلت الى سلوك رجعي متخلف ... كل ذلك من أجل الحفاظ على امتيازاتها الطبقية الجديدة و المادية المحصل عليها ...و لأجل أن تجعل قناطر التسلق لأتباعها أسريا و عشائريا و قبليا على الخصوص ، تراها تحافظ على لعبة و قواعد التسلق و المتجلية في تبني نفس خداع الآخر و النفس ، و نفس مرايا الانتماء و الخطاب و التبني للقضايا حتى تجدد تحصيل النفع و انتهازية الفرص ...فهي على المنابر متحررة تقدمية ، و في ممارسة الواقع متواطئة في النكوص و التخلف و خيانة الممارسة للخطاب و ليس مجرد مناقضة ... إنها خيانة إذن ...
فهل تبرر الخيانة تناقض الشخصية المَرَضي ؟ فنشفع لصاحبها و نقول : مسكين ، كان ضحية عدم التوفيق بين الخطاب و الممارسة و الالتزام ؟ قد يأخذ الذئب صورة الحمل في الاستكانة ... لكنه يبقى بلعاب الذئب في تحيُّن الفرض لأجل ... ماذا ؟ طبعا لأجل الافتراس ... حينئذ يعطي الشرعية للخيانة فيبدل لفظها و عناها رغم جذرية حروفه : خ ـ و ـ ن ـ
و عفا الله عما سلف
à propos du blog
blog des essais poétiques, littéraires et culturels.يروم هذا المنبر الى تحفيز الارادة على الكتابة والابداع.الى جعل ثقافة الكتابة اختراقا للواقع وبحثا عن الحقيقة...نور العقل يسطع في سماء الكون وأعماق الوجدان...نور على نور