أقفاص 24

تمر السنون و تتطور معها المواقف كما انعكاساتها. كان عمران على علم و على حدس بردود الفعل، لكنه كان قدوة لكثير من المناضلين و المثقفين في جرأته و نباهته و حدسه. أصبح أكثر تحررا من المكان و المؤسسات. لم تعد تربطه بالديار الإسبانية سوى علاقات وأنشطة ثقافية، رغم أنه يستفيد من شرعية إقامة هناك. لكنه آثر أن يجعلها حركة حيوية بين بلدان متعددة، خصوصا و أن أوربا تخلق ذلك الإمكان. استفاد من صفة كاتب و مثقف. ترجمت قصصه كما دراساته إلى اللغتين الفرنسية و الإسبانية، و كان هناك مشروع ترجمة منتظر إلى اللغة الإيطالية و الإنجليزية. كان لاقتراح السفارة المغربية دور في تشجيعه على اختيار باريس كمحطة للإقامة. ملحق بالشؤون الثقافية، و ساهر على برنامج أنشطة فنية و فكرية بين البلدين.

ستشاء الصدف لكي يستقبل عمران من طرف عمران. و سيلتقي بالسيدة وفاء. وقع ذلك بعد استشارات حول إمكانية توفير سكن للدراسة يستفيد منع عمران الحلوي ابن السيد وفاء بباريس لكي يتمم دراساته العليا بعد تفوقه في مرحلة الأقسام التحضيرية بالمغرب.

وزن الحرية الذي رأى به عمران بن يوسف موجة و روح السيدة وفاء زادته فرنسا سحرا و فك ارتباط بهواجس أفكار تملّكته و قيّدته كثيرا. في كل مرة يفكّر فيها في الارتباط بوفاء تستحضره ثقافة تقليدية راسخة في لا وعيه و خطابه الاجتماعي الذي لا يفطن له. يعترف مع نفسه بتخلفه الفكري و الموقفي و السلوكي. يقارن بين القيم التي تجمع الأزواج في فرنسا و غيرها من الدول الغربية و تلك التي يحملها من بلده الممتد مع اللغة و الثقافة و ليس مع المكان فقط. وصمة العار التي يشعر بها كل من فكر في أن يتزوج بسيدة لها أولاد أو مطلقة.

من بين أصدقائه هنا بباريس كانت أسرة صديق فرنسي اسمه هنري لوبلون و زوجته صوفي. هنري أب لابنين و صوفي أم لبنت. اجتمعا و تزوجا و ضما الأولاد الثلاثة في عشهما الجديد. أم الولدين و أب البنت شاءت لهما الظروف لكي يتركا لهما أحقية التربية و الرعاية. حرّراه من أفكاره دون ان يستطيع التصريح بها لهما. لم يكن يفكر في إنجاب أولاد. هو ابن الخمسينيات و قد ولجها منذ سنتين. لم يرد أن يجعل فكرة خلافة بذرية. فكّر في خلافته بمشاريعه و إبداعاته. من جديد يلتقي مع الأفكار التي يراها منتشرة بعاصمة النور باريس. يسميها بالنور و ينسبه للعقل أولا. يضحك لعواصم متلألئة بالمصابيح لكن العقول مغلقة فيها كما ظروف الحياة مختنقة و جحيم.

تعلّم الرقص و العزف على الغيتار و تابع دروس المسرح و الأداء و الإخراج له. أصبحت حياته فعلا متميزة لكنها ناقصة يلزمها ذلك الملء الوجداني و الأسري. لِمَ لا. الزواج بوفاء و الاهتمام بالولدين الشابين الآن. حرية اختيار لا يناقشها فيها أحد و لا يسمح له بالتطرق إليها بشكل متخلّف. احتاج إلى قراءات متنوعة حول فلسفة الذات. قرأ حول مقولة سقراط ( اعرف نفسك بنفسك ). قرأ للدراسات النقدية المرتبطة بها. ناقش أصدقاءه وعمّق اختبارات ذاته. كل هذا من أجل قرار حاسم أراده لعلاقته مع وفاء.

قد كانت سنة 2007 سنة مثيرة في أحداثها. بين كل المشاريع و العلاقات، اختار الارتباط بالسيدة وفاء و تبني التكفل بدراسة عمران و أخته. زواج خلق الحدث في تتبع مسار حياة مناضل و نورس حلّق بين أبراج المدن و خارج سياج كل المرجعيات إلا ما كان من مرجعية الحرية التي آمن بها كمقدس يبجله و يعظمه.

يجلس في المساء و بجابنه وفاء. يطل من شرفة الشقة بباريس 16. أمامه كنيسة و مسجد. في جانب من الشارع مطعم و مدخل الميترو النازل أسفل. و النوار تمتد لتتداخل بأشعتها فتلون الرؤية ببريق يسحر العين الراقصة بين السماء و الأرض. يرفع رأسه للقمر و يبتسم للقدر. يبتسم و يقرع كأسه لكلمة الحرية و الحب و سيدة الحكمة كما أصبح يسميها.

ـ لمن هذه الابتسامة يا عمران؟

ـ في الحقيقة هي ضحكة محبوسة، ساخرة من ذاتي. تريد أن تنفجر.

ـ اشرح لي أكثر ماذا يدور في كونك الذهني.

ـ كنت أحارب أعداء خارجيين. الآن مع هذا الوضع الجديد أصبحت أحارب دواخلي. تعلمين. لقد كانت شخصية دون كيشوت دي لامانتشا على صواب فيما رافعت به و قاومته. كان صراع الشخصية مع دواخل مكبّلة. جل الدراسات تعترف بدور سيربانتيس، الذي اغتلت شهرته شخصية دون كيشوت، في تحرير شخصية إنسان القرون الوسطى من قيود الخوف و الإحباط. برغم اختلاف السياق و المرجعية الدينية و الحضارية آنذاك.

ـ أراك في حيرة من أفكار أو إنني أنا التي لم تفهم بعد.

ـ قيد تخلّف كان يكبّلني لن أشرحه لكِ. على الأقل الآن. أما مناخ محاربة الدواخل فإنني أعيشه هذه الأيام أو هذه المرحلة كإنسان باريسي بكل ما تحمله باريس من رمزية ثقافية. لن أقحم الخطاب الإعلامي المضضل لحواس و أفهام الناس. إنني أتكلم عن باريس الشعراء والمثقفين و الفلاسفة الذين رسموا للحرية طريقها الإنساني و تاريخي. عمران بن يوسف تسكنه ثقافة المجتمع الذي أنتج تاريخ شعبه. تلك التفاصيل الصغيرة التي لا يدركها الوعي. جزئيات المواقف و التعابير بالقسمات و الأصوات و الحركات، كلها تختزن موروثا يخدعنا في الادعاء بأننا متحررون. باريس التي أمامنا شارع معبد بالحرية و المساواة، تتجاوز كل تخلف و كل رجعية و لو كانت فرنسية. باريس ريح و روح حلّت فيهما ذات عمران بن يوسف. هذا الاسم الذي يحمل دلالة الأنبياء و القديسين يحتاج إلى طهارة جديدة. إنني أضحك يا وفاء على ذاتي التي أصبحت مهووسة بتغطية الأحداث و قراءتها من خلال ذاتي، من خلال الكتابة و ضرورتها. من خلال المسرح كذلك. لعبة انعكاسية بين الخشبة و الواقع أصبح لها سفراء في دواخلي.

ـ و بلدُك يا عمران. ما موقعه من كل هذا؟