14 ـ
ينتهي عمل رانيا في الغالب مع الساعة السادسة و النصف مساء. منذ بدأت اشتغالها داخل فضاء هذه المؤسسة الأخطبوطية الضخمة بالمقارنة مع شركة اتصالات المغرب التي قضت فيها فترة تدريب، استطاعت أن تفهم و تقارن و تستنتج... الحيوية التي طبعت شخصيتها منذ صغرها و طفولتها، و هي متدرجة عبر مسالك التعلم ثم التخصص ثم التكوين التأهيلي في مدرسة عليا للإعلام و هندسة التدبير و الاستثمار، بقيت مستمرة معها و في عملها و هي داخل أحد أجنحة المركب الكبير للأوفشور... نملة دؤوبة في حيوية يومية و التزام عملي و احترام للوقت و للمهام و تحديد للسمؤولية... كلها مبادىء لم تبق مجرد تعلمات من أجل النجاح و نيل الشهادات، بل إنها عرفت رسم شخصية رانيا و نيلها احتراما أكثر و أكبر داخل وسط عملها و بين مسؤوليها و أسرتها المهنية...
إنما من يرى رانيا خلال السنتين اللتين قضتهما في هذا المركب شبه الفضائي ـ كما تحب أن تسميه في بعض الأحيان ـ لن يخطر له على باله بأنها مأخوذة بالعمل ومُبتَلَعة داخله و داخل زوابعه... تحاول ما أمكن أن تكون دقيقة في كل شيء. تقيس المسافات الزمنية و تشحنها بالحيوية المناسبة و الشعور المناسب. و كأنها شجرة ضخمة تقتطع من جذعها كل مرة القطعة المناسبة لأجل إيقاد دفء الحرارة و الحميمية في العلاقات الاجتماعية المتنوعة. فداخل منزلها تحترم أوقات المساء و مائدة العشاء، و خلال نهاية الأسبوع يكون لها موعد مع الأسرة في نزهة وعزومة لمطعم أو سفر لإفران او مراكش او طنجة أو غيرها من مدن البلاد... وحينما وافقت على الخطوبة، كان الجل يظن على أنها خطوبة تقليدية بين أسر متجانسة و متعارفة، لكنها حاولت ألا تترك للصدفة فرصة اختراق المرغوب فيه بجهل مساره و مصيره... هكذا و بمجدر ما ألمح لها خطيبها بالموضوع كانت رانيا متخذة لسياسة واقعية تستبق الأحداث و تحاول أن تمشي بها إلى السكة التي تناسبها و توافقها... بادرت إلى مزيد من اللقاءات و الخرجات و الجلسات... مزيد من المناقشات و التعرف على الطباع و اكتشاف الجميل منها في الآخر... قارنت و سألت و تجرأت و جرّبت، فكان الاقتناع النسبي بمشروع الخطوبة والزواج...تحضيرها و دراستها للمشروع أشبه بتحضيرها لدراسة مشاريعها التعليمية أو المهنية... لا تريد أن تطرح السؤال على نفسها كما يطرحه عليها بعض محيطها: هل كل شيء عندك ميكانيكي و يخضع لمنطق معايير محددة ومبرمجة؟
لا تجيب كما أنها لا تحب أن تميز بين هذه الطريق و تلك في حياتها. الكل طريق واحدة، الهدف فيها النجاح بدقة متناهية و باميتاز. فلسفة أخذت تتعمق في السلوك اليومي لتصبح اعتيادا شاق لا يقدر عليه أي واحد. لكن رانيا و بفضل إرادتها القوية التي تمتلكها و التي غالبا ما تحقق معها و بها أمنياتها على حساب صحتها أو نومها و راحتها، إذ انها قد تنهار بعض الأحيان فتحتاج إلى راحة تتدخل فيها الأدوية و المسكنات لكي تعطي انتعاشة مقوية للاستمرار في جهد التحدي أو تحدي الجهد... و كم نبّهها الأطباء لمسار كل هذا. دعوها إلى الاعتناء بصحتها و بحصص نومها و رياضتها المعتدلة بحكم الجهد المهني الذي ولجتْه في الأوفشورين... لكن الطائر انطلق مع اتجاه الريح التي قد تكون عاصفة و لا يدري أين ستقوده...
كل هذه الملاحظات قد يحضر بعضها أو جلها عند فحص الخالدي. قد يبحث عن وسيلة للتخفيف من ضغط شروط الحياة الجديدة. لكن الأهم عنده هو هذا النجاح و التألق لفتاته التي سيتغير النظر لها بمجرد ان يسمع مقترحها الجديد الذي دبّرت له منذ ستة أشهر تقريبا، و لم تُخبِرْه به إلا في هذه الجلسة المسائية التي اختارتْها مع أبيها قبل أن تجلس مع أمها... توازنات رأت ترتيبها تفاديا للعقبات أو الصدمات التي يمكنها أن تسببها..
غريب أمر هذا الجيل، فأن يصبح الكبار أمامه مثل أطفال صغار، غير قادرين على التحول أو الافتراق، فهذا ما جعل صدمة الإخبار تدهش السيد فحص الخالدي فاحتاج معها إلى مزيد من الوقت للتفكير و المناقشة مع تأجيل القرار ما أمكن..
جلسة هذا المساء من 12 يناير 2015، جعلت طفلا صغيرا فعلا يستيقظ من نومته السديمية في فؤاد السيد فحص. تحوّلت نظرته من رؤية العقل إلى رؤية الوجدان. ربما غلبت هذه على تلك. بدأ يرى بها بنته رانيا برؤية شاعرية يبحث خلالها عن اكتشاف هذا المخلوق الأنثوي الذي أثث نور كونه و حياته...
رانيا...