الذكاء الحضاري :
قد يكون العنوان ساحرا، لكنه أُريدَ به أداء وظيفة راهنة و رسالة تاريخية ملحة تحتاجها شعوبنا اليوم. فنحن شعوب تعيش ضغوطات متعددة و متنوعة، منها ما هو نفسي، و منها ما هو اقتصادي و سياسي ، و آخر مقارناتي تترجمه الثقافة و التثاقف و الاحتكاك الثقافي و الحضاري. تلك المقارنات الفارقة و التي تُحدث الشروخ في الوعي و الشعور و السلوك. ثلاثة خيوط نحتاج لسَلّها و ربطها بموضوع الذكاء و نوعه المرغوب. إنه الذكاء الحضاري الذي يجب علينا أن نبحث عنه في حقول الدراسات التنموية و الثقافية الجديدة. نتحدث عن الذكاء الجمعي و الجماعي، كما نتحدث عن التنمية الذاتية بمفهومها الوظيفي الحضاري و ليس بمفهومها النفعي الفرداني، كذلك نتحدث عن التنمية الثقافية، و لاننسى توظيف الحقلين في مجالات السلوك المنظم في العلاقات و عمل المؤسسات. و هو تشعب يغوص في أعقد الشبكات الحياتية و التي تعكس أعقد شبكات الجهاز العصبي المعني بتحقيق مثل هذا النوع من الذكاء. إنه الذكاء الحضاري إذن.
و ما دام منطلقنا سياسة تدبير لشؤون الحياة و رغبة في عدم بيع أوهام أو أحلام مكسرة كمرايا متشظية تجرح في الإمساك بها، فإننا سننطلق من جراح ناتجة يستشعرها الوعي و تتحسر بها النفس و ينحبس لها الوجدان فلا ينطلق بربيع إحساسه و تعبيره و عيشه.
من بين هذه الجراح، امثلة متعددة دالة على بلادة مواقف او انفعالات جاهلة و متسرعة أو تملّكٌ غضبي يُغيّب العقل و يستحضر غيض الغرائز العنيفة في سلوك الإنسان.
لعل هذه الأمثلة، و في ارتباط لها بالعنوان، ستكون حاضرة في خطط التماس بين الشعوب. إنها خطوط الاحتكاك الحضاري و الثقافي الذي يتحقق في جل العلاقات و في شتى الميادين، و هي الخطوط الخفية و المنفلتة عن الملاحظة.
ها نحن نصل إلى مبتغى الأمثلة في التناول، فنقول إن أساليب التعبير و التفجير العنيفة لا تليق بالأسلوب الحضاري المدني. خصوصا أن المناخ الذي تتفجر فيه يتصف بالتوازنات المنظمة لتمظهراته. هي توازنات تستدعي الأساليب المدينة و السلمية الراقية في التحقق. و طبعا تحتاج أولا و قبل كل شيء إلى درجات فهم و أسلوب تعامل بنفس السلاح. إنه سلاح الثقافة و السياسة و الإعلام، و الأسلوب المنظم و المؤسساتي الذي يحتويه و ينظم لعبته الناعمة.
منطلق المثال سلوك غير مناسب أراد الفعل أن يكون و أن يكتسب شرعيةً في التحقق به و بسببه. رغم أن الجل قد عبّر و تظاهر و عزّى و واسى و ساند و تضامن و بكى و تحسَّر... علّها أفعال دالة على أن الاستثناء لا يلغي القاعدة في شرعية الانتماء الحضاري الإنساني. لكن أن ينقلب رفض السياسات العنصرية و العدائية إلى دفاع عن سلوكٍ لا حضاري، فذلك هو المنزلق و شبكة الاصطياد التي حيكت ليقع فيها الأغبياء و دائرة الإغبياء. هذه الدائرة التي تؤججها سياسات لئيمة داخل منظوماتنا المجتمعاتية، و داخل مراكز تدبير الصراع الحضاري العدائي لأممنا في الخارج، في منابر و مكاتب قرارات شريرة و لا إنسانية في منطلقاتها و لا حضارية في أهدافها. و لا ننس ان هناك من يتغذى من الصراعات و الحروب لا من التسامح و العلاقات السلمية.
ربما اتضح المثال أكثر الآن و بان على أنه مرتبط بما وقع في قضية ( شارل إيبدو ). لكننا مع متابعة الأحداث، نجد أن غياب هذا الذكاء الحضاري يستفحل فر ردة فعل المسلمين، كما يستفحل في أسلوب تدبير و ردة فعل الغربيين في تعاملهم مع ملف و موضوع و قضية ( شارل إيبدو ). فلقد خلقتوا منها فزاعة كبرى و فرقة تهويل لنفسية الفرد الغربي حتى يغلفون السياسات و الأزمات بالملهاة الكبرى و هي عداء الآخر لحضارتنا ( حضارتهم ). هو أسلوب الأم المتعجرفة و المتباهية ببورجوازيتها و المغطية لجهلها و عدم قدرتها على تدبير شؤون بيتها و تربية أفراده و ضمان متطلباتهم.
و ربما نحتاج إلى تدقيق وظيفة مصطلح و مفهوم ( الغربيين ) حتى يكون التحليل السياسي مناسبا كوصفة كيميائية لطبخة موضوع الاشتغال و ملامساته.
في مفهوم الذكاء تحضر درجات العمليات العقلية كما يحضر البعد النفسي و التحليل ـ نفسي في فهمه بمعنى التكيف و الاندماج مع الوضع و الشعور بالتوافق و الارتياح خصوصا مع خلق الشروط الذاتية و الموضوعية المناسبة و الملائمة لتحققه.
و في مفهوم الحضارة، يغيب الفرد المادي و يحضر الشخص المعنوي الذي يترجم بنيانا مركبا من اللاماديات أكثر من تركيبه مما هو هيئة فزيولوجية و حركية سلوكية ظاهرة هذا الشخص المعنوي الذي يكون ناضجا داخل حقله لكي يكون سفيرا له و خادما لرسالته و مشروعه. و هنا سنتحدث عن حاجته للذكاء الحضاري طبعا.
هناك غباء حضاري حاضر عند الحكام الذين آثروا التعنت بالاستبداد على الشعوب و قودهم إلى حروب غير متكافئة مع قوى خارجية. هناك غباء حضاري حاضر في قود المسلمين في حرب ضد النظام الشيوعي خدمة للنظام الإمبريالي و معه الرجعي الخادم لأعتابه. هناك غباء حضاري مستفحل بالمقارنة مع تجربة اليهود عبر العالم و داخل المجتمعات الغربية و كيف استطاعوا تشكيل لوبيات ناعمة و ضاغطة و متحكمة في أقوى سياسات الأنظمة الغربية. هناك غباء حضاري حاضر بالمقارنة مع أسلوب عمل اليابانيين مع الحضارة الغربية، و كيف استطاعوا العود من جديد إلى حياة القوة و الحفاظ على حضارتهم دون اصطدام يكرر اخطاء التاريخ...
و كما بضدها تعرف الأشياء، أين هو ذكاؤنا الحضاري من هذا الغباء؟